صوت الضالع / د. أمين العلياني
تلقَّت الأوساط الإعلامية والسياسية، اليوم، ببالغ الاستغراب والاستهجان، ما نُشِرَ على أنَّه “بيان رسمي” صادر عن وزارة الإعلام والثقافة والسياحة المعطلة بفعل سياسيات وزير فضل السياحة على الإعلام. والأمر المستغرب حقًّا، في هذا البيان المشوب بالغموض والتناقض، هو افتقاده لأبسط مقومات الصّدور الرسمي: فلم يُذَيَّل بتوقيع وزيرها المفترض، ولا وكيلها، ولا حتى ناطقها الإعلامي المُعتمَد؛ فكيف تُصدر وزارة بالأساس معطلة بالخارج- يُفترض أنها مؤسسة دولة – بياناتٍ بلا هوية، وكيف تُحمِّلُ الرأي العام تبِعة تصديق خطابٍ بلا مُرسِلٍ مُعلَن؟
ولعلَّ اللافت في صياغة هذا البيان المتهافت، هو تَبنِّيه لغة التابع المُتعَوِّد على التلقي والتلصص، لا لغة المسؤول المُناط به التبليغ والتوضيح؛ فهو يُحيل القارئ إلى عبارة “ما جرى تداوله”، وكأنَّ الوزارة – بمنطق كاتب البيان الركيك وغير المسؤول- لم يعد سوى مرصدٍ سلبي لِما يُقال، لا جهةً فاعلةً تملك روايتها ومشروعها.
وهنا يطفو على السطح سؤال جوهري: أي وزارة هذه التي يتحدث عنها الوزير السائح؟ أهي المؤسسة الدستورية التي يفترض أن تخدم الشعب في العاصمة المؤقتة عدن، أم هي ملكية شخصية افتراضية تُدار من فنادق المنفى ومنصات التواصل الرقمي، وتتعامل مع الحقيبة الوزارية كإرثٍ خاص وملكيةٍ وراثية؟
يزعم البيان تمسكه بالاختصاصات القانونية والمؤسسية، وينعى تلميحًا على النائب المتميز صلاح العاقل تجاوزها، ولكن، أيَّة مؤسساتٍ وتِيْهَ أيَّة شرعيةٍ يتحدث؟ أتلك المؤسسات التي انحدرت إلى مستوى أدواتٍ للخطاب الطائفي والعنصري المُنَفَّذ من قنواتٍ تُدار من خارج الوطن وبتمويل من وزير يتحدث عن المرجعيات والقوانين للمرحلة الانتقالية، مستهدفةً نسيج مجتمع حضرموت وأبناء الجنوب بصورةٍ ممنهجة؟ أم تلك التي حوَّلت الإعلام الرسمي إلى منصةٍ لتأجيج الصراع، وتشكيل خلايا إلكترونية لسبِّ أعضاء المجلس الرئاسي التابعين المجلس الانتقالي الجنوبي والقوات المسلحة الجنوبية، تحت ستار مزيف من الحفاظ على الوطنية والوحدة أمر مقدس؟ فهل يُعد التحريض على أبناء الجنوب أصحاب الأرض عملًا وطنيًا؟ وهل يُعد تعطيل مؤسسات الدولة في الجنوب وتشويه سمعة قيادتها من قبيل الدفاع عنها؟
أما حديث البيان عن “المحددات الدستورية والقانونية” فهو محض هُراء، وهو يعلم ذلك جيدًا؛ فأين كان صمتُ هذه المحددات المُفترضة عندما جرى الاستفراد بالقرارات وعُطِّلت مؤسسات الدولة؟ وأين كان حكمُ القانون عندما تم دعم التمردات القبلية في مأرب لقطع الغاز وحضرموت والمهرة ضد السلطات المحلية الشرعية وقطع الديزل والمازوت والخام عن كهرباء عدن وأخواتها؟ إنَّ إصرار البيان على تبني مصطلحات “مرحلة انتقالية” و”توافقية” بائدة، بينما الواقع يشهد بموت ذلك التوافق وانقضاء أمد تلك المرحلة بقرار الشعب الجنوبي في الميدان بعد أن حرر محافظاته، إنما هو محاولة يائسة لإلباس البالي ثوبًا جديدًا، والمشكلة أنكم لم تستوعبوا المتغيرات.
ثم يأتي تهديد البيان بـ”قرارات مجلس الأمن الدولية” كنكتةٍ سوداء في سياق مأساوي؛ فهذه القرارات، في حقيقتها، وُضعت للتعامل مع انقلاب الحوثي على السلطة في صنعاء، وليس لتحكم شعبًا حرر أرضه بدمائه، ويبني مستقبله بإرادته ولولاه ما كنت وزير سائح اخذت اعترافية جوازك الأحمر بفعل نضال الجنوب. والأكثر سخرية، أن من يدَّعون التمسك بهذه القرارات هم أنفسهم من نقضوا الاتفاقيات المنوافق على عملها من داخل عدن، مما يجعل احتجاجهم بالقرارات الدولية نفاقًا سياسيًا لا أكثر.
إنَّ القيادة السياسية الشرعية، المعترف بها محليًا وإقليميًا، هي تلك التي تقف على أرضها وتحمي مكتسباتها ومؤسساتها، وتتحمل المسؤولية وتقاسي الصعاب، وليست تلك التي تُدار عبر تطبيقات الهواتف ومواقع التواصل. وهي وزارة تمثل الإعلام تعمل على إبراز رئيس مجلس القيادة الذي أتى بطريق توافقية وتسيء لبقية الأعضاء ، وكأن مهمة الوزارة حكرًا لتضخيم حكمًا فرديًا مُطلقًا؛ فإذا كان أعضاء هذا المجلس الرئاسي من الجنوبيين– بحسب زعم البيان – لا سلطة لهم، فكيف قبل الوزير المفسبك والمهتم بالتغريدات الموجهة لأطراف شركاء بالشرعية وهم أساسًا الشرعية أن يقبل بنائبٍ له وهو معُين بقرار من أحد أعضاء هذا المجلس؟ أليس في هذا التناقض إقرارٌ ضمني بالواقع الجديد؟
ويبلغ التناقض ذروته عندما يتحدث وزيرٌ مُقيم خارج البلاد، وغائب عن مقر وزارته لأكثر من سنين والقانون الذي يدعو إلى تطبيقه لا يخوله أن يغيب أربعين يومًا، عن التزامه الكامل واستعداده للعمل من أجل استعادة الدولة؛ فأي التزام هذا الذي يُدار من المنافي؟ وأي عملٍ وحديث عن استعادة الدولة يمكن أن يتحقق من وراء البحار؟ إنَّ غياب الوزير الفعلي والحقيقي عن مقر عمله هو التجاوز الحقيقي على مؤسسات الدولة، واختراق قوانينها النافذة وهو المعطل الفعلي للوزارة، وليس نقاشًا سياسيًّا أو برلمانيًّا حول أدائها.
وخلاصة القول: إن هذا البيان، بكل ما احتواه من فراغٍ معنوي وتناقضٍ منطقي ولغةٍ تهديديةٍ عقيمة، لم يكن سوى محاولة يائسة لخلق وهْم الحضور، وتقديم صكوك غيابٍ لمن هم حاضرون في ساحة الفعل والمسؤولية.
وبعد أن تحررت أرض الجنوب بإرادة أبنائها، وقريبًا ستُبنى الدولة بإرادتهم أيضًا، وسيُحاسَب كل مسؤول على ما قدمه على أرض الواقع، لا على ما يخطه في بياناتٍ افتراضيةٍ من منفاه الاختياري.
فشكرًا لكل من يذكرنا، من على بُعد آلاف الأميال، بما يجب ألا نكون عليه.
زر الذهاب إلى الأعلى