صوت الضالع/تقرير / محمد الزبيري
لم تعد قضية شعب الجنوب العربي محصورة في حدود الجغرافيا المحلية أو أسيرة سجالات السياسة الداخلية، بل تحولت اليوم إلى قضية سياسية وقانونية وإنسانية عابرة للحدود، تتقدم بثبات نحو الساحة الدولية بوصفها قضية شعب حُرم من دولته، لا نزاع سلطة ولا خلاف نخبوي عابر.
فمع اتساع رقعة الحراك الجنوبي السلمي في الداخل والخارج، ومع تصاعد الوعي الدولي بأهمية الاستقرار في البحر العربي وخليج عدن وباب المندب، بات صوت الجنوب العربي أكثر وضوحًا وتأثيرًا، مستندًا إلى إرادة شعبية جامعة، وتاريخ دولة معترف بها، وحق مكفول في تقرير المصير.
في هذا السياق، تأتي التحركات الجماهيرية الواسعة التي يشهدها الداخل الجنوبي، بالتوازي مع مسيرات ومظاهرات سلمية في نيويورك وعدد من العواصم الأوروبية، لتؤكد أن الجنوب العربي لا يطالب بالمستحيل، بل بحقه الطبيعي في استعادة دولته المستقلة كاملة السيادة، باعتبارها الحل المستدام للأزمة، وضمانة الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي.
هذا التحول الذي شهدته القضية الجنوبية خلال السنوات الأخيرة لم يكن نتاج عمل سياسي تقليدي فحسب، بل ثمرة وعي جمعي تشكّل تحت ضغط المعاناة وتجارب الفشل المتكررة لكل الحلول المفروضة.
هذا الوعي دفع الجنوبيين إلى إعادة تعريف قضيتهم أمام العالم، لا بوصفها صراع نفوذ، بل باعتبارها قضية تحرر وطني تستند إلى مظلومية موثقة، وتاريخ سياسي واضح، وإرادة شعبية صلبة لا تقبل الالتفاف أو المساومة.
لقد أصبح الجنوب اليوم يخاطب المجتمع الدولي من موقع الشريك المسؤول، لا من موقع الضحية الصامتة.
*من قضية محلية إلى مسألة عالمية عادلة*
نجح شعب الجنوب العربي، عبر نضاله السلمي والمنظم، وكفاحه المسلح في نقل قضيته من إطارها المحلي الضيق إلى فضاء دولي أوسع، تُطرح فيه اليوم بوصفها قضية حق وعدالة، لا قضية صراع سياسي مؤقت.
هذا التحول لم يكن وليد لحظة عاطفية أو رد فعل ظرفي، بل نتيجة تراكم تاريخي طويل من الإقصاء والتمييز والعنف المنهجي الذي طال أبناء الجنوب منذ إسقاط دولتهم وفرض وحدة قسرية لم تُبنَ على أسس عادلة أو شراكة حقيقية.
لقد أدرك الجنوبيون مبكرًا أن مخاطبة العالم بلغة الحقوق والقانون الدولي، وبالاستناد إلى مبادئ تقرير المصير المعترف بها أمميًا، هي الطريق الأكثر فاعلية لكسب التعاطف السياسي والإنساني، وبناء قناعة دولية بأن ما يجري في الجنوب ليس تمردًا أو نزعة انفصالية طارئة، بل حراك شعبي شامل لشعب حُرم من دولته ويسعى لتصحيح مسار تاريخي مختل.
كما ساهمت التحولات الدولية في تعزيز حضور القضية الجنوبية، في ظل تزايد اهتمام القوى الكبرى باستقرار الممرات البحرية ومكافحة الإرهاب العابر للحدود. ومع تراجع قدرة الدولة اليمنية السابقة على القيام بوظائفها السيادية، بات من الواضح أن تجاهل المطالب الجنوبية لم يعد خيارًا واقعيًا، وأن المجتمع الدولي بات مطالبًا بالتعامل مع جذور الأزمة بدل الاكتفاء بإدارة نتائجها.
*السردية القانونية… الجنوب قضية حق لا أزمة سلطة*
في صلب الخطاب الجنوبي المعاصر، تبرز السردية القانونية بوصفها الركيزة الأساسية التي يستند إليها مطلب الاستقلال. فالجنوب العربي كان دولة معترفًا بها دوليًا وعضوًا في الأمم المتحدة قبل أن يُدمج قسرًا في كيان سياسي فشل في تحقيق العدالة والمساواة.
من هنا، فإن استعادة دولة الجنوب لا تعني انفصالًا بالمعنى السلبي، بل تصحيحًا لمسار تاريخي خاطئ وإعادة الأمور إلى نصابها القانوني والسياسي.
كما أن السردية تُفند محاولات تصوير القضية الجنوبية كأزمة سلطة أو صراع نخب، وتؤكد أنها قضية شعب وأرض وهوية، وأن أي مسار سياسي يتجاوز هذه الحقيقة محكوم عليه بالفشل.
يعزز الخطاب القانوني الجنوبي استناده إلى مواثيق الأمم المتحدة، ولا سيما المبادئ التي تكفل حق الشعوب في تقرير مصيرها، وبطلان أي وحدة تُفرض بالقوة، وهو ما يجعل تجاهل الحق الجنوبي إخلالًا بقواعد العدالة الدولية وليس مجرد خلاف سياسي.
*الإرادة الشعبية… حراك شامل لا مناورة نخبوية*
ما يميز القضية الجنوبية اليوم هو وضوح الإرادة الشعبية واتساع نطاقها داخليًا وخارجيًا. فالتحركات الجماهيرية في عدن وبقية محافظات الجنوب العربي، والحشود المرتقبة في محافظة المهرة، تعكس إجماعًا مجتمعيًا عابرًا للمناطق والانتماءات، يؤكد أن مطلب استعادة الدولة ليس حكرًا على فئة أو حزب، بل تعبير صادق عن تطلعات شعب بأكمله كما يتعزز هذا المشهد بتفويض نقابات المجتمع المدني، والقطاعين العام والخاص، والقبائل، للمجلس الانتقالي الجنوبي بوصفه حاملًا سياسيًا للإرادة الشعبية.
إن استمرارية هذا الحراك لسنوات طويلة، رغم الضغوط والتحديات، تشكل دليلًا قاطعًا على أصالة المطلب الجنوبي، وتؤكد أن هذه الإرادة ليست ظرفية ولا قابلة للاحتواء أو الإلغاء.
*الوجه الإنساني للقضية… معاناة شعب وصمود أجيال*
وراء الخطاب السياسي والسردية القانونية، تقف قصة إنسانية عميقة لشعب عانى من الإقصاء والتهميش وتدمير المؤسسات ونهب الثروات.
أجيال كاملة كبرت على الحرمان، لكنها لم تفقد إيمانها بحقها في وطن ودولة وكرامة.
هذه المعاناة تمثل جوهر القوة الأخلاقية للقضية الجنوبية، وتمنحها بعدًا إنسانيًا يتجاوز الحسابات السياسية الضيقة.
فالمأساة الجنوبية لم تكن حدثًا عابرًا، بل مسارًا طويلًا من المعاناة اليومية التي طالت الإنسان في معيشته وكرامته ومستقبله. من تدهور الخدمات الأساسية، إلى البطالة الواسعة، إلى تهميش الكفاءات، تشكلت ذاكرة جمعية مثقلة بالألم لكنها مشبعة بالأمل.
هذه المعاناة والمأساة الإنسانية التي يعيشها الشعب الجنوبي تضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته الأخلاقية، وتؤكد أن القضية الجنوبية ليست مجرد ملف سياسي، بل قضية شعب يسعى للعيش بسلام على أرضه، في دولة تحترم إنسانيته وتصون حقوقه
*الجنوب والاستقرار الإقليمي… شريك لا تهديد*
تترسخ القناعة الدولية بأن استعادة دولة الجنوب العربي شرط للاستقرار الإقليمي لا تهديد له يمثل أحد أهم مرتكزات الخطاب الجنوبي. فالجنوب العربي، بحكم موقعه الجغرافي الاستراتيجي، يشكل عامل استقرار محوري في البحر الأحمر وخليج عدن وباب المندب.
وقد أثبتت التجربة أن القوات المسلحة الجنوبية تلعب دورًا فاعلًا في مكافحة الإرهاب وبسط الأمن، وأن وجود دولة جنوبية مستقرة يسهم في سد الفراغات الأمنية، ويفتح المجال لشراكات دولية قائمة على المصالح المشتركة.
*الحضور الدولي… من نيويورك إلى العواصم الأوروبية*
يشهد العالم اتساع الحضور الجنوبي في الساحات الدولية، من نيويورك أمام مقر الأمم المتحدة إلى عواصم أوروبية عدة، حيث يحتشد أبناء شعب الجنوب العربي في مسيرات سلمية منظمة.
ولا يمكن فصل هذا الحضور عن تطور الخطاب السياسي والإعلامي الجنوبي، الذي بات أكثر قدرة على مخاطبة الرأي العام الدولي بلغة الحقوق والقانون والمسؤولية.
ويعكس هذا المشهد تحولًا نوعيًا في مسار القضية الجنوبية، حيث لم يعد الوجود الجنوبي في الخارج مقتصرًا على ردود الفعل أو المناسبات الرمزية، بل أصبح فعلًا سياسيًا منظمًا يحمل رسائل واضحة ومباشرة إلى المجتمع الدولي. فالمسيرات والفعاليات التي تُنظم أمام المؤسسات الأممية والبرلمانات الأوروبية، باتت تمثل منصة لإعادة تعريف القضية الجنوبية بوصفها قضية شعب يسعى لاستعادة دولته ضمن إطار القانون الدولي، بعيدًا عن منطق الصراعات العبثية.
كما أن هذا الحضور الدولي يراكم وعيًا متزايدًا داخل الأوساط الإعلامية والحقوقية الغربية، ويفتح مساحات نقاش جديدة حول جذور الصراع، ومسؤولية المجتمع الدولي في دعم حلول عادلة ومستدامة بدل الاكتفاء بإدارة الأزمات.
*المهرة وحضرموت… عمق استراتيجي للدولة الجنوبية*
تكتسب محافظتا حضرموت والمهرة أهمية استراتيجية خاصة في مشروع دولة الجنوب العربي الفيدرالية، بما تمتلكانه من موقع وثروات وعمق جغرافي.
وتؤكد المواقف الشعبية فيهما أن مشروع الدولة الجنوبية مشروع وطني شامل، لا مركزي ولا إقصائي، يقوم على الشراكة والعدالة.
وتتجاوز أهمية حضرموت والمهرة البعد الجغرافي لتشمل أبعادًا اقتصادية وأمنية وسياسية محورية، فهاتان المحافظتان تمثلان ركيزة أساسية لأي دولة جنوبية مستقرة وقادرة على إدارة مواردها وحماية سيادتها.
كما أن الالتفاف الشعبي فيهما حول مشروع الدولة يعكس نضجًا سياسيًا ووعيًا بأهمية بناء دولة اتحادية عادلة تحترم الخصوصيات المحلية ضمن إطار وطني جامع.
ويؤكد هذا الواقع أن الجنوب العربي لا يُبنى على مركز واحد أو رؤية إقصائية، بل على شراكة حقيقية بين مختلف مكوناته، بما يعزز تماسك الجبهة الداخلية ويقطع الطريق أمام محاولات التفتيت أو الاستثمار في التناقضات المناطقية.
*الجاليات الجنوبية… رافعة النضال السلمي*
تلعب الجاليات الجنوبية في المهجر دورًا محوريًا في إيصال صوت الجنوب إلى مراكز القرار الدولي، عبر تحركات سلمية منظمة، واتصالات إعلامية وحقوقية فاعلة.
ويعكس هذا الدور انتقال القضية الجنوبية من مرحلة الدفاع إلى مرحلة المبادرة السياسية المنظمة.
وتكمن أهمية الجاليات الجنوبية في كونها تتحرك داخل بيئات سياسية مؤثرة، حيث تُصاغ السياسات الدولية وتتشكل اتجاهات الرأي العام.
ومن خلال التواصل مع البرلمانات، ومراكز الأبحاث، ومنظمات حقوق الإنسان، تسهم هذه الجاليات في تفكيك الروايات المضللة، وتقديم السردية الجنوبية بلغة يفهمها العالم.
كما أن استمرار هذا الحراك يعكس قدرة القضية الجنوبية على التمدد خارج حدودها الجغرافية، وتحويل الشتات إلى قوة ضغط سلمية داعمة لمسار الاستقلال، وهو ما يمنح النضال الجنوبي بعدًا دوليًا متناميًا يصعب تجاهله.
*سوابق تاريخية وقانونية تدعم حق الجنوب*
ليست قضية الجنوب العربي استثناءً في التاريخ الحديث، فقد شهد العالم حالات عديدة لشعوب استعادت سيادتها بعد وحدات قسرية، وهو ما يؤكد أن حق تقرير المصير مبدأ أصيل، وأن الاستقرار لا يُبنى على إنكار الهويات.
وتُظهر هذه السوابق أن تجاهل إرادة الشعوب لا يؤدي إلا إلى تأجيل الأزمات، لا حلّها. فالدول التي احترمت حق تقرير المصير واحتكمت إلى القانون الدولي استطاعت في نهاية المطاف تحقيق استقرار سياسي وأمني دائم، بعكس النماذج التي حاولت فرض الوحدة بالقوة.
ومن هذا المنطلق، فإن المطالبة الجنوبية باستعادة الدولة لا تشكل خروجًا عن النظام الدولي، بل انسجامًا مع قواعده ومبادئه التي تؤكد أن الشرعية الحقيقية تنبع من إرادة الشعوب.
*رسالة الجنوب إلى العالم… السلام عبر العدالة*
يوجه شعب الجنوب العربي رسالة واضحة إلى المجتمع الدولي مفادها أن السلام الحقيقي لا يتحقق بتجاهل القضايا العادلة، بل بالاعتراف بإرادة الشعوب.
إن استعادة دولة الجنوب العربي تمثل حقًا سياسيًا مشروعًا، والاستجابة لهذه الإرادة هي الطريق الأقصر نحو استقرار دائم يخدم الأمن الإقليمي والدولي.
وتحمل هذه الرسالة دعوة صريحة لإعادة النظر في المقاربات التقليدية التي أثبتت فشلها، والانتقال نحو حلول تستند إلى العدالة والشرعية الشعبية.
فالجنوب العربي لا يطرح نفسه بوصفه عامل اضطراب، بل كشريك محتمل في صناعة السلام، إذا ما مُنح حقه الطبيعي في تقرير مصيره.
إن الاعتراف بإرادة شعب الجنوب لا يخدم الجنوب وحده، بل يسهم في بناء منظومة إقليمية أكثر استقرارًا، ويغلق أبواب الصراع المفتوح الذي طال أمده بسبب تجاهل القضايا الجوهرية.
زر الذهاب إلى الأعلى