مقالات وتحليلات

مونولوغات فلسطينية

كاتبة سورية / رشا عمران

كاتبة سورية / رشا عمران

حضرتُ، قبل أيام، فاعلية للتضامن مع غزّة، أقيمت بطلب من مسرح عشتار في فلسطين الذي وجّه دعوة إلى كل مسارح العالم ومسرحييه للمشاركة الجماعية في دعم غزّة، والوقوف معها ضد الجرائم التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي، في محاولة لتكريم هذا الشعب الصامد، وتكريم آلاف الضحايا الذين قضوا نتيجة جرائم الاحتلال. والمشاركة هي قراءة مونولوغات كتبها بعض سكان غزّة قبل ما يزيد عن العشر سنوات، في أثناء العدوان الإسرائيلي على غزّة في عام 2012. استشهد بعض أصحاب النصوص، وآخرون فقدت أخبارهم، وثمّة من على قيد الحياة في قطاع غزّة، ومن استطاعوا اللجوء إلى أوروبا. شارك في الفاعلية ممثلون مصريون، ومنهم نجوم لهم جمهور واسع، (سيد رجب، سلوى محمد علي، محمد حاتم، أحمد مالك، يسرى اللوزي، والسورية ناندا محمد والأردنية راكين سعد)، برفقة عازف الكمان محمد سامي الذي قدّم معزوفات صولو من التراث الموسيقي الفلسطيني. وتضمّن الإعلان عن الفعالية تأكيدا أن ريعها بالكامل مخصّص لغزّة، ما جعل حضورا كثيرين يدفعون أضعاف ثمن تذكرة الدخول.

أقيمت الفعالية في المسرح الكبير في سينما راديو في وسط القاهرة، كان عدد الجمهور يزيد بكثير عن مساحة المسرح، جمهور من مختلف الأعمار والطبقات كان لافتا فيه حضور عدد لا يستهان به من الأوروبيين المقيمين في القاهرة، والذين كان معظمهم يضع الكوفية الفلسطينية حول عنقه. كانت الفعالية مؤثّرة فعلا، فالنصوص تبدو كما لو أنها كتبت للتوّ، في هذه الحرب لا قبل عشر سنوات، إذ لا شيء اختلف تقريبا، الحصار نفسه، والطريقة نفسها في الصمود، وفي التعامل مع الموت أو انتظاره. الفرق فقط أن الحرب هذه الأيام تحمل هدف الإبادة الحقيقية، بحيث قلة فقط ممن يعيشون هناك يتمكّنون من كتابة يومياتهم، بسبب الانقطاع المتكرّر للاتصالات والنور وفقدان كل مسبّبات العيش واستمرار الحياة.

لم يكن مفاجئا الحضور الكثيف في الفعالية هذه، فلمعظم المشاركين فيها جمهور واسع في مصر، وهذا ذكاء يحسب للمنظّمين (فرقة المعبد المسرحية التي أسّسها المخرج أحمد العطار، وبالتعاون مع شركة الإسماعيلية التي تدير مسرح راديو وعدة منشآت ثقافية في وسط القاهرة)، مثلما هو موقف يُحسب للمشاركين في التضامن مع غزّة في الوقت الذي يخاف فيه فنانون عرب كثيرون من التعبير عن مواقفهم، خشية تخلّي شركات الإنتاج عنهم (معظمها مملوك لرأس مال تطبيعي). ولم يكن مفاجئا التفاعل الذي حدث داخل المسرح مع نصوصٍ قرأها المشاركون، ذلك أن الحدث الفلسطيني يطغى علي مجريات الحياة فعليا لدى شرائح كثيرة من المصريين الذين لم تتمكّن منهم عقود التطبيع الدبلوماسي بين مصر وإسرائيل، ولم تستطع تغيير وجدانهم الجمعي تجاه القضية.

يحاول كثيرون هنا في مصر إيجاد طرق للتضامن أو الدعم أو تقديم أي فعلٍ يمكنه أن يخفّف، ولو القليل من الإحساس بالعجز الذي نعيشه جميعنا، نحن العرب، المشغولون والمعنيون بالقضية الفلسطينية، رغم كل ما مر بنا وببلداننا من كوارث يمكن معها نسيان أية قضية أخرى. يجمع المصريون التبرّعات وينخرطون في تجمّعات تهدف إلي تقديم كل أنواع المساندة، يستقبلون الفلسطينيين الذين تمكّنوا من العبور إلى العريش ومنها إلى أنحاء مصر في بيوتهم، يتواصلون مع أطبّاء وممرّضين في المستشفيات التي تستقبل الجرحى والمصابين لمعرفة احتياجاتهم وتأمينها، يقدّمون الدعم المادي للطلاب الفلسطينيين الدارسين في مصر ممن فقدوا أي مصدر للدخل، يذهبون مع قافلات المساعدات إلى العريش تستمر ساعات طويلة للوصول والعودة، فقط ليخففوا من شعور العجز وقلة الحيلة تجاه ما يحدُث. ومشهد الكوفيّة الفلسطينية في شوارع القاهرة بات من المشاهد المألوفة جدا حاليا، مثل مشهد الأعلام الفلسطينية المرفوعة علي شرفات ومحلات تجارية كثيرة، وعلى سيارات خاصة كثيرة في الشوارع، مثل الدعاء (أضعف الإيمان) لغزّة وأهلها الذي يردّده الجميع.

لا يستطيع الساسة ولا السياسة ولا كل معاهدات السلام تغيير وجدان جمعي تحتفظ ذاكرته بتفاصيل تاريخ طويل دفعت فيه هذه الشعوب من لحم قلوبها في سبيل قضية هي الأساس الذي بني عليه الحاضر البائس الذي تعيشه بلداننا. سوف تبقى هذه الشعوب تردّد المونولوغ الفلسطيني، حتى تتحقّق العدالة مهما طال الزمن

مشــــاركـــة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى