خاطرة/ أمين عبدالقادر لطف أحمد
لم يبقَ سوى بضعة أيام ليغادرنا هذا العام، ولست مهتمًا لهذا الأمر؛ لأنني لا أتشبث بالأيام ولا أحتفظ بتواريخ ولا أعطي لها أهمية، أنا أقضي الأيام كعابر سبيل، أتسكع فيها كما يحلو لي، عفوًا كما يحلو لها! تتخبط بي يمنة ويسرة وكأنها شيطان، بل هي شيطان بسوادها تجري فينا تخترقنا وتحرقنا ولا تبالي لأمرنا، لكني لا ألومها؛ فالذنب ليس ذنبها بل ذنبنا نحن من اقترفناه نحن من أخطأنا بحق ذاتنا..
نحن من أبينا أن نبقى في سبات وتركنا الأيام تمر مرور الكرام ولم نحدث فيها أثرًا يذكر، وأحدثت فينا آثارًا لن تمحى ولن تندثر، وأجادت أيام هذا العام النحت على ملامحي علامات الشيب والتعب، مزقت جسدي إلى أشلاء من الخيبة والتعاسة حتى أصبحت لا أقوى على مخالطة الناس ولا أحب الحديث معهم، ليس كرهًا ولا تكبرًا، إنما يبدو لي أن الوحدة والبقاء مع النفس بين أربعة حيطان أجدى نفعًا وعافية للروح من غيره..
تعرف كم أنت إنسان، تجد الإنسانية في وجدانك تفيض بمشاعرها فتبكي وتضحك وترثي وتشيد وتسافر وتعود وتحارب وتدافع، تصنع كل هذا وأنت بين أربعة حيطان ليس إلا، بينما العالم الفسيح في الخارج لا يقوى فيه المرء على أن يفعل شيئًا من أفعال الإنسانية سوى عبارات السلام، الذي يتبادلونها وأخبار مأساوية تكرر هنا وهنا.. لا تقدم شيئًا سوى الضوضاء، التي يكاد أن يتفجر منها العالم.
عام أوشك أن يرحل ولا أعرف منه سوى بضعة أيام، نعم ثلاثمائة وخمسة وستون يومًا لا أذكر منها سوى السابع من أكتوبر، حيث نهض العالم من سباته عن بكرة أبيه..
تغيرت يومها القوانين وانحرفت عقارب البوصلة، من يومها استغنت البشرية عن الجهات الأربعة، اكتفت بجهة واحدة تشرق وتغيب منها الشمس، وتبدأ يومهم وتنتهي حيثها، من يومها والجرائد والقنوات الإخبارية لا تسكت من الحديث الذي يفوح منه روائح الزيتون والبرتقال الشتوي.
السابع من أكتوبر هو اليوم… الذي سيبقى من بين كل أيام هذا العام، اليوم الوحيد الذي سيدونه التاريخ بكل صفحاته، بل دون الرجال بطولاتهم في كل أبواب التاريخ وليس من السهل أن تمحى أو تندثر، لأنهم لم يدونوها بالحبر الذي يلتهم الأيام، إنما نحتوها في عقول البشرية فردًا فردًا، فتعلم الناس منهم ماذا يعني أن تكون بطلًا، أن تكون إنسانًا في زمن غدت الإنسانية حبرًا على ورق، والبطولة أصوات وصور تبث عبر الأثير ترى من خلالها دواب تتقاتل على المجهول لتجني المال ويجني متابعها التيه والضياع.
أما أنا شخصيًّا فقد صحوت ذاك اليوم وتعلمت منهم ما يجب عليا تعلمه، وصحوت أيضًا في منتصف أكتوبر يومها كان فرح تخرجي، جنيت يومها ما تعبت في سبيله لسنوات ثلاث..
صحوت يومها رغم تعبي وحزني وقهري، لا عجب لأمري، فأنا لا أعرف لي فرحًا ما لم يحمل في طياته شيئًا من الحزن، لم أفرح يومها لهذا، إنما فرحت كثيرًا لأني سمعت بأم أذني سر سعادتي تخبرني أنا شخصيًّا لأول مرة..
قالت وقتها اتركني أمشي على مهلي، كانت كلماتها يومها أشبه بسيمفونية أغاني عريقة طالما انطربت بها. تركتها تمشي وتفعل ما تشاء تعصف بي رياح خطوتها كلما مرت أمامي، لا أنكر حبي العظيم الذي أراودها إياه ولا تلتفت وكأنها قلاع تتصلب عيون الناظرين إليها ولا تأبى لأمرهم، وظللت من قبل ومن بعد أكتب لعينيها الخواطر، وأعزف إذا لمحت حركتها مواويل أحزاني وأشجاني، وهل تدري معذبتي أنني في سبات لا أصحو إلا إذا لمحت طيفها أو قرأت بعض حروفها؟! من لي فيخبرها أن أيام سنيني لا تعد من دونها..
لو أحصيت أيام عمري كلها دونها فلن تزيد عن أعداد أناملي، أما عن عمري أمام عينيها فأنا حتمًا أشيخ وأبدو عجوزًا حتى لساني تخذلني ولا أنطق ببنت شفاه ولا أدري لماذا؟! ولا أدري ولا أريد أن أدري أي سر يخفيه ذاك الكتاب الأسود الذي سيبدأ بعد أيام يقرؤنا صفحاته.
زر الذهاب إلى الأعلى