صوت الضالع/ مبارك الباشا
في الثامن والعشرين من مايو الماضي، اضطرت (ب.س) “26 عاما” إلى إنهاء مشوار عملها مع إحدى المنظمات المحلية الممولة من منظمة الصحة العالمية في محافظة تعز جنوب غرب اليمن، بعد ثمانية أشهر فقط من التحاقها بالعمل.
تقول (ب.س) التي كانت تعمل ممرضة ضمن برنامج تنفذه إحدى المنظمات المحلية (فضلت عدم ذكر اسمها) في مركز ريفي بمديرية “المعافر”؛ إنها اضطرت للإذعان لإلحاح أهلها بوجوب تخليها كليا عن العمل بعد تفاقم شكهم بشأن نزاهة المنظمة التي كانت تعمل فيها.
وكانت الأسرة التي تسكن في منطقة بعيدة عن المركز الذي تعمل فيه ابنتها قد قررت ضرورة تخلي (ب.س) عن العمل خشية على سمعة الفتاة داخل المجتمع، لا سيما بعد تداول إشاعات مسيئة لابنتهم بسبب من بقائها لأسابيع في مقرالعمل بعيدا عن منزلها، وهو الأمر الذي يعتبر عيبا مشينا بنظر مجتمعها الريفي الذي بات يرتاب بشدة من نشاط المنظمات بعد تزايد النشاط التحريضي مؤخرا في تلك المناطق الريفية، والذي يقف خلفه رجال دين مناهضين لعمل النساء مع منظمات الإغاثة.
تصاعد الخطاب المتطرف
وخلال العامين الأخيرين، كثفت الجماعات الدينية في أرياف محافظتي تعز ولحج واليمن عموما من حراكها التحريضي ضد المنظمات الإنسانية والنساء العاملات معها منظمات تحت مزاعم بتنافي ظروف عمل تلك المنظمات مع الفضيلة والقيم المحلية. وبات التطرف يتصاعد بشكل ملحوظ مؤخرا في تلك المناطق بالتزامن مع تزايد حضور منظمات المجتمع المدني، إذ تنشط في اليمن منذ بداية اندلاع الحرب مطلع العام 2015 نحو 111 منظمة دولية وأكثر من 13 ألف منظمة محلية ضمن خطة الاستجابة الإنسانية، وفق إحصاءات منفصلة صادرة عن “منظمة الأوتشا”، “والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية”، خلال العامين 2018-2020.
في هذا التحقيق تتبعنا قصص العشرات من ضحايا التحريض المناهض للعمل مع منظمات الإغاثة في عدد من أرياف المحافظتين، إذ تبين أن جميعهن تعرضن للأذى بأشكال ومستويات مختلفة.
تقول هدى الصراري، وهي محامية ورئيسة “منظمة دفاع للحقوق والحريات”، إن حملات التحريض التي تتعرض لها العاملات مع منظمات المجتمع المدني عبر المنابر الدينية باتت تكتسب صدى واسعا داخل مجتمعات الريف وتحدث بالتالي أثارا سلبية كبيرة في الوعي الجمعي هناك، بسبب من قابلية المجتمع اليمني لا سيما في الريف للتأثر السريع بالخطاب الوعظي الذي يستخدم الغطاء الديني لتمرير مقاصده.
وطبقا للصراري فإن بعض الشخصيات والقادة الدينيين يقومون باستغلال تلك القابلية لدى الناس لتمرير الدعوات المناهضة لعمل المرأة مع المنظمات، من خلال النشاط الوعظي الذي يمارسونه من على المنابر الدينية، لا سيما المساجد وأماكن العبادة. إذ يعمدون لتضليل الرأي العام من خلال استخدام نصوص دينية غير صحيحة أو لا تتناسب مع متطلبات الحياة الحديثة، وتوظيفها للنيل من تلك المنظمات.
قيود إضافية على حرية المرأة
سلوى القاضي (اسم مستعار) “30 عاما” ضحية أخرى لتصاعد الخطاب المناهض لعمل المرأة مع منظمات المجتمع المدني، وجدت نفسها فجأة محظورة من مزاولة عملها مع “منظمة كير الدولية” التي تعمل فيها منذ مطلع العام 2019 في محافظة تعز.
تقول القاضي ف”، إن المسألة لم تتوقف عند ذلك الحد، فقد مُنعت الفتاة التي تنتمي لأحد أرياف (مديرية المِسراخ) القريبة من مدينة تعز؛ حتى من الخروج من المنزل بإلزام عائلي اُتخذ تحت ضغط الحملة الأخيرة ضد المنظمات التي شنت نهاية يونيو الماضي على وسائل التواصل الاجتماعي.
نجحت سلوى بعد شهر من الجدل المحتدم والمرافعات مع أهلها في استعادة ثقتهم مجددا وانتزاع موافقة جديدة للعودة إلى العمل مع تلك المنظمة، لكنها تؤكد أن أسرتها لم توافق على العودة سوى باشتراطات جديدة قضت بقيود إضافية على حرية الفتاة، شملت حظر السفر لأماكن بعيدة خلال العمل وقيود رقابية أذعنت لها مقابل العودة للعمل.
لم تكن القاضي تكترث كثيرا للاتهامات المسيئة ولا للنظرة السلبية التي كان يقابلها بها المجتمع بسبب عملها مع منظمة أجنبية. تقول: “كل ذلك لم يكن يهم طالما كنت أحظى بثقة ودعم أسرتي”. لكنها انصدمت حينما وجدت نفسها محل اتهام ومساءلة لدى أسرتها ذاتها، وهي تؤكد أن هذا الموقف تسبب لها بإحباط وانهيار بالغين.
ليلى حسن “24 عاما” (اسم مستعار) لضحية ثالثة تنتمي لمديرية “المقاطرة” في محافظة لحج جنوبي اليمن، وهي فتاة ريفية تعمل في منظمة محلية يمولها برنامج الأغذية العالمي بمنطقة “طور الباحة” التابعة لذات المحافظة. تعرضت ليلى لخسارة عاطفية تمثلت في إنهاء عقد زواج كان قد أبرم مع شاب تحبه في قريتها.
تقول حسن إن الشاب الذي كان قد تقدم لخطبتها تراجع عن إتمام مشروع الزواج بعد انتشار إشاعة عن حادثة فساد أخلاقي تردد أنها حدثت في المنظمة التي تعمل فيها. وقد تفاقمت تلك الإشاعة وصارت قصة محل تصديق لدى الناس في مجتمعها بعد تناولها من قبل خطيب الجمعة في جامع القرية في سياق خطاب مناهض لعمل الفتيات مع منظمات الإغاثة، لتجد ليلى نفسها عقب ذلك محل اتهام في شرفها داخل المجتمع، الأمر الذي دفع خطيبها للتخلي عنها وفسخ العقد قبل إتمام الزواج، ودفع أسرتها أيضا إلى إيقافها عن العمل بشكل نهائي.
مؤشرات تفاقم الظاهرة
لا توجد إحصائيات رسمية عن عدد النساء المتضررات من حملات التحريض الديني والاجتماعي التي تشن ضدهن بسبب عملهن مع المنظمات في اليمن، بيد أننا رصدنا في هذا التحقيق عبر التتبع الميداني في عدد من أرياف محافظتي تعز ولحج؛ 28 حالة تضرر لفتيات تعرضن لأحد أشكال الأذى بسبب حملات التحريض المناهضة للمنظمات والنساء العاملات فيها.
وتنوعت الأضرار التي تعرضت لها الفتيات الـ 28، ما بين التوقف عن العمل، وتضييق نطاق الحرية أكثر من ذي قبل، والتشويه أو التعرض لإساءة السُمعة، والتعرض لعنف مادي ومعنوي من قبل الأسرة والمجتمع، وخسارة علاقات اجتماعية أو أسرية، ومواجهة تحديات ميدانية جديدة في بيئات العمل، وغيرها من أشكال الضرر المادي والمعنوي.
ويعد التحريض ضد العاملات مع المنظمات أحد أشكال “العنف القائم على النوع الاجتماعي”. وقد تضاعف هذا النوع من العنف في اليمن منذ بداية الحرب مطلع مارس 2015 وحتى منتصف العام 2020 إلى نحو 63٪، وفق تقرير لمركز”وودرو ويلسون الدولي للباحثين”.
وتقول نتائج استطلاع إلكتروني حديث أجراه مركز “يمن انفورميشن سنتر” مطلع يناير 2022، حول قضايا النوع الاجتماعي؛ أن العنف القائم على النوع الاجتماعي في اليمن موجه نحو المرأة بنسبة 69.9٪، لجملة من الأسباب أتى الجهل على رأسها بنسبة 46.6٪، تلته المعايير الاجتماعية والثقافية بنسبة 32.9، إلى جانب أسباب أخرى وردت بنسب هامشية.
وذكرت نتائج الاستطلاع أن العادات والتقاليد المجتمعية، وغياب الآلية الوطنية للحد من التمييز، والطبقية، هي أكثر العوائق التي تُبقي التمييز ضد المرأة قائما في اليمن.
مزاعم واتهامات
تتبعنا في هذا التحقيق أيضا، أنشطة تحريض يمارسها وعّاظ ورجال دين خلال خُطب الجُمعة من على منابر المساجد ضد المنظمات ونشاطاتها والنساء العاملات فيها، في عدد من مناطق الريف بمديريات تعز ولحج
يتهم هؤلاء الوعاظ المنتمين للتيار السلفي الذين رصدنا لهم أيضا نشاط تحريضي على وسائل التواصل الاجتماعي؛ المنظمات بممارسة التبشير المسيحي واستهداف الثقافة الإسلامية والترويج للانحلال الأخلاقي وإفساد الفتيات. ويزعمون أنهم يسعون من خلال دعوات المناهضة تلك إلى حراسة الدين والفضيلة والقيم الاجتماعية اليمنية.
لكن مصادر في عدد من المنظمات الإغاثية النشطة في أرياف المحافظتين تحدث إلينا نافية صحة تلك الاتهامات، وقالت إن المنظمات التي تنتمي لها تراعي الأعراف الاجتماعية اليمنية فيما يتعلق بظروف وبيئة العمل التي تنشط فيها الفتيات الموظفات لديها في تلك المناطق.
تواصلنا أيضا بمدير “ائتلاف الإغاثة الإنسانية” في محافظة تعز، ابراهيم المجيدي، للتأكد من صحة ذلك الأمر، وقال لنا إن ظروف العمل التي تنشط من خلالها أغلب المنظمات في أرياف تعز لا تتنافى مع العادات الأخلاقية ولا تسعى لترويج قيم بديلة للقيم الثقافية اليمنية.
في السياق، يرى الصحفي والناشط نشوان العثماني، أن لا علاقة لمنظمات الإغاثة المحلية والدولية في اليمن بالتبشير المسيحي ولا باستهداف الثقافة الإسلامية. مؤكدا وجود محاولات لاستهداف سمعة النساء العاملات مع تلك المنظمات تقوم -وفق قوله- على اختلاق وترويج قصص الفساد الأخلاقي التي لم تحدث في الواقع أساسا.
يقول العثماني : “صحيح أن هناك بعض الأخطأ لمنظمات الإغاثة تتعلق بطريقة تنفيذ البرامج الإغاثية على الأرض مثلا، لكن لتُنقد في إطارها دون إقحام الدين واستخدام التحريض جُزافا ضدها”.
ويدعو أفراد المجتمع المدني إلى الحذر من الانخراط في حملات التحريض التي تقودها شخصيات تنتمي للتيار السلفي في محافظات عدن وتعز والضالع ولحج. ويقول: “هؤلاء السلفيون لا يفكرون في العادة ولا يفهمون إلا في نطاق محدود خاص بهم”. ويرى أن من الخطأ تصديقهم فيما يتعلق بالاتهامات التي تكال للمنظمات من قبلهم.
غياب الوعي
على أن المشكلة هي أن الشخصيات الدينية تلك تُعد محل ثقة داخل المجتمع، لا سيما في المجتمعات الريفية، لذا فإن الكثير من الناس يستمعون لها ويصدقون مزاعمهما بشأن المنظمات. وخلال إعداد هذا التحقيق وجدنا أن الكثير من الأباء يأخذون تحذيرات تلك الشخصيات الدينية المنتمية للتيار السلفي على محمل الجد، حيث عمد عدد منهم تحت تأثير حملات التحريض في مناطق الريف التي استهدفها التحقيق إلى إيقاف بناتهم عن العمل نهائيا مع المنظمات بعد أن كانوا قد سمحوا لهن في البداية.
حاولنا التواصل بعدد من الأباء الذين قاموا بإيقاف بناتهم عن العمل مع المنظمات للتحقق من دوافع قراراتهم تلك، لكن جميعهم رفضوا التجاوب معنا. بيد أن مصادر قريبة منهم أكدت لنا أن دوافع إيقاف هؤلاء الأباء لبناتهم عن العمل مع المنظمات تشكلت بفعل تأثرهم بحملات التحريض المناهضة للمنظمات سواء تلك التي تشن من على المنابر الدينية في مناطق الريف التي ينتمون لها أو تلك التي تُطلق على وسائل التواصل الاجتماعي.
تبيَن خلال العمل على هذا التحقيق أن كافة النساء اللاتي تضررن من حملات التحريض التي تعرضن لها بسبب عملهن مع منظمات المجتمع المدني في عدد من أرياف تعز ولحج؛ لم يتوفرن على أي من أشكال الحماية أمام الأضرار المادية والمعنوية اللاتي تعرضن لها.
غياب التشريعات الرادعة
تواصلنا بوزارة حقوق الإنسان في الحكومة اليمنية لمعرفة موقفها بشأن الانتهاكات الحقوقية التي تتعرض لها العاملات مع المنظمات بفعل حملات التحريض، فتلقينا ردا من وكيل الوزارة نبيل عبدالحفيظ، مفاده أن الوزارة ترفض حملات التحريض التي تُشن ضد المنظمات والعاملات فيها، لكنها لا تستطيع التحرك ميدانيا نظرا لوضع الحرب وبسبب غياب التشريع القانوني فيما يتعلق بمواجهة التحريض الذي يشن من على المنابر الدينية.
يقول عبدالحفيظ ان وزارة حقوق الإنسان كانت قد أطلقت برامج توعية قبيل الحرب عبر المنابر الدينية وبالاستعانة ببعض الخطباء والوعاظ لنشر التوعية المجتمعية بشأن حرية المرأة وحقوقها، كالحق في العمل والتنقل والمشاركة العامة داخل المجتمع، ومناهضة الخطاب الديني المتطرف، لكن تلك البرامج توقفت مؤخرا بفعل الحرب.
من جانبها تقول المحامية هدى الصراري، إن الدستور اليمني يخلو من النصوص القانونية التي تحمي النساء من التحريض عبر المنابر الدينية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي كذلك.
وتدعو إلى ضرورة سن قانون لمكافحة الجرائم الإلكترونية لحماية النساء من التحريض على وسائل التواصل الاجتماعي بكافة أشكاله التي تشمل “التضليل بالترويج لأخبار مغلوطة ومسيئة”، و”الخطاب المتطرف”، وهي ما تعاني منه مؤخرا الفتيات العاملات مع منظمات المجتمع المدني.
وتشدد رئيس مؤسسة “دفاع للحقوق والحريات” على ضرورة قيام الحكومة اليمنية بإيجاد وسائل وآليات حماية قانونية عاجلة تتنصر للنساء العاملات مع المنظمات اللاتي تعرضت لانتهاكات حقوقية ناتجة عن التحريض اللاتي تعرضن له.
وتهيب الصراري بضرورة تنمية الوعي داخل المجتمع بشأن حقوق المرأة ومواجهة الصورة السلبية في الذهن الجمعي فيما يتعلق بعمل المرأة ومشاركتها في الحياة العامة، مؤكدة أن ذلك بات ضرورة ملحة في ظل تزايد الانتهاكات الحقوقية التي تتعرض لها المرأة اليمنية مؤخرا.
آثار نفسية
يقول المختص في العلاج النفسي بمحافظة تعز، نبيل المحمدي ، إن التحريض الديني والاجتماعي الذي يشن على الفتيات العاملات مع منظمات المجتمع المدني يضعهن أمام تحديات نفسية وعاطفية واجتماعية كبيرة ومتواصلة قد تعيق حياتهن بالكلية.
ويؤكد أن شعور فتاة ما موظفة مع منظمة بالتهديد المتواصل على حياتها أو سمعتها أو وظيفتها يترك في نفسها أثار سلبية ويدعها في حالة دائمة من الإحباط والقلق والخوف والاضطراب، وذلك هو أكثر ما يعيق نموّ المرأة وتقدمها الطبيعيين في الحياة، على حد وصفه، مشيرا إلى أن الأمر قد يتطور إلى حد الاكتئاب.
يرى المحمدي أن الاتهامات المُسيئة التي تكال جزافا ضد العاملات مع المنظمات قد تدمر حيواتهن إذا ما وصلت إلى حد ما، نظرا لحساسية وضع المرأة في المجتمع اليمني، مؤكدا أن إشاعة واحدة مسيئة إذا ما أُلصقت بفتاة وراجت داخل المجتمع بشكل كافي فإنها قد تقضي على حياتها.
وبحسب المحمدي فإن الاتهامات الجزافية التي تتعرض لها تلك الفتيات غالبا ما تؤخذ على محل الجد لدى عائلاتهن، الأمر الذي يتسبب لهن بحدوث مشكلات اجتماعية كبيرة قد تفضي بدورها إلى حدوث عنف أسري ضدهن يتمثل في الأغلب على أشكال منها الحظر من العمل أو فرض المزيد من الرقابة، وقد يتطور الأمر حتى إلى استخدام العنف الجسدي المباشر من قبل بعض الأباء.
على مدى خمس سنوات عالج المحمدي العشرات من الحالات المرضية النفسية المرتبطة بالعنف القائم على النوع الاجتماعي في تعز. ويقول إن أكثر من 90٪ منها كانت لنساء تعرضن لهذا النوع من العنف، بعضهن فتيات عملن مع منظمات مجتمع مدني، وتعرضن لمشاكل اجتماعية بسبب النظرة السلبية التي جوبهن بها داخل مجتمعاتهن.
زر الذهاب إلى الأعلى