تقرير/ محمد الزبيري
للأسبوع الرابع على التوالي،يتواصل إضراب المعلمين الجنوبيين عن العمل استجابة لدعوة نقابة المعلمين الجنوبيين التي قررت الإضراب حتى وضع حلول لمعاناة المعلمين الذين يعانون الأمرين بسبب توقف صرف رواتبهم وانهيار قيمة العملة الوطنية بحيث أصبح راتب المعلم لا يوفر الحد الأدنى من تكاليف المعيشة في ظل الغلاء الفاحش والأوضاع الإقتصادية المتدهورة والتي هوت بعشرات الآلاف من المعلمين إلى ما تحت خط الفقر.
شمل الإضراب الذي دعت إليه “نقابة المعلمين الجنوبيين” كل المحافظات الجنوبية خصوصاً العاصمة عدن ومحافظات لحج والضالع وأبين وشبوة ووادي حضرموت الأمر الذي تسبب في إيقاف الدراسة قبل انتهاء الفصل الدراسي الأول وبالتالي حرمان أكثر من مئتي ألف طالب وطالبة من التعليم.
تتجاهل حكومة الشرعية معاناة المعلمين وتتعامل بلا مبالاة أمام كل النداءات المطالبة بإعادة هيكلة أجور المعلمين والعاملين في القطاع التربوي حتى تتناسب مع الوضع المعيشي الراهن،وكذلك الإفراج عن كل ما يخص المعلمين من علاوات وتسويات وظيفية،وصرف المستحقات المالية المتراكمة لدى الحكومة منذ سنوات،والالتزام بصرف الرواتب نهاية كل شهر بدون تأخير.
*واقع مأساوي
سيراً على الأقدام يقطع الأستاذ محمد علي مقبل عدة كيلومترات ليصل إلى مقر عمله في إحدى مدارس مديرية الأزارق بمحافظة الضالع يدفعه ضميره الإنساني وإيمانه بحق الأطفال في التعليم رغم أن ال50 ألف ريال التي يتسلمها كراتب شهري لا تساوي ثمن المسافة الطويلة التي يقطعها يومياً للوصول إلى المدرسة.
حالة الأستاذ محمد تجسيد واقعي لواحدة من مئات قصص المعاناة اليومية التي يتكبدها المعلم الجنوبي في ظل أوضاع اقتصادية صعبة وتآكل قيمة رواتب المعلمين الجنوبيين بحيث أصبح راتب المعلم لا يوفر الحد الأدنى من تكاليف المعيشة.
يستيقظ محمد علي مبكراً في ساعات الفجر الأولى، يحضّر كراريسه ليبدأ رحلة من أجل تأمين لقمة العيش وأداء رسالته التعليمية، يحقق الغاية الثانية ويتعثر في الأولى بعد أن أصبحت قيمة الراتب لا تكاد تساوي شيئاً.
عبداللطيف عبيد معلم آخر عجز عن إصلاح دراجته النارية التي تقله من مكان سكنه في منطقة جبلية ماراً بمنحدرات وطرق وعرة للوصول إلى المدرسة التي تبعد عن منزله أكثر من 5 كيلومترات.
يقول عبداللطيف أن ثمن البنزين الذي تستهلكه دراجته النارية يزيد عن راتبه الشهري،لكنه رغم كل المعاناة ظل متمسكاً بأداء واجبه التعليمي.
يضيف قائلاً ” المعاناة بلغت حداً لا يطاق،والسكوت عن جريمة الحكومة بحق المعلمين والأجيال جريمة أخرى،يجب على المجتمع والشعب أن يتبنى مطالب المعلمين والضغط على الحكومة لوضع حلول ومعالجات عاجلة تضمن توفير الحد الأدنى من حقوق المعلم المهدورة.
*مطالب عادلة
يُعدد رئيس نقابة المعلمين الجنوبيين المطالب التي جرى رفعها إلى الحكومة ممثلة في وزارة التربية والتعليم، والهادفة إلى معالجة أوضاع المعلمين والعاملين في القطاع التربوي، وعلى رأسها سرعة هيكلة الأجور حتى تتناسب مع الوضع المعيشي الراهن، ووضع حل نهائي وحاسم لمشكلة آلاف المعلمين الذين جرى توظيفهم في الفترة ما بين 2008 و2011، إضافة إلى الإفراج عن كل ما يخص المعلمين من علاوات سنوية وتسويات وظيفية، وحسم قضية المعلمين المحالين إلى التقاعد، وصرف المستحقات المالية المتراكمة لدى الحكومة منذ سنوات مضت، وكذا منح المعلمين التأمين الصحي، والنظر في وضع النازحين منهم بسبب ظروف وتداعيات الحرب.
وأوضح نقيب المعلمين الجنوبيين أن “الإضراب هذا العام تمت الاستجابة له من قِبل المعلمين بشكل غير عادي، وبلغت نسبة الإضراب نحو 90 في المئة في جميع المحافظات الجنوبية، بناء على تقارير رصد يومية تصل من جميع المحافظات والمديريات، ورغم التهديد الذي تمارسه جهات حكومية على بعض المعلمين للحيلولة دون تنفيذ الإضراب، فقد نجح بدرجة كبيرة”.
وأبدى أسفه من تجاهل الحكومة مطالب المعلمين التي لم تكن الأولى، قائلاً إن “هذا التجاهل يدل على أن هذه الحكومة لا تعوِّل على التعليم وأهميته في بناء المجتمعات، وهذه اللامبالاة أدت إلى تدهور التعليم في البلاد”.
وأضاف نقيب المعلمين “النقابة حاولت عدم الانجرار إلى الإضراب العام، واضطرت إليه أخيراً بعد أن استنفدت كل الوسائل الأخرى، حيث رفضت وزارة التربية والتعليم الاستجابة لمطالب المعلمين المشروعة”.
*راتب فقد قيمته
يواصل نقيب المعلمين الجنوبيين شرح المعاناة التي وصل إليها المعلم في الجنوب في ظل إصرار الحكومة على تجاهل مطالبه العادله بقوله”كنا قد نفذنا إضراباً مماثلاً العام الماضي، ثم علقناه لإعطاء الحكومة مهلة لتنفيذ مطالبنا، لكن للأسف لم تكن هناك استجابة، والآن مع حلول امتحانات نهاية الفصل الدراسي الأول استأنفنا الإضراب بناء على رغبة المعلمين في كافة محافظات الجنوب، فقد تدهورت أحوالهم المعيشية في ظل التدهور المستمر للعملة الوطنية (الريال)، حتى أصبح المعلم عاجزاً عن توفير الحد الأدنى من المعيشة لأسرته، فقد كان متوسط الراتب الشهري للمعلم قبل اندلاع الحرب 350 دولاراً، والآن مع تدهور الأوضاع وانهيار قيمة العملة الوطنية أصبح متوسط راتب المعلم أقل من 50 دولاراً فقط”.
أوضح نقيب المعلمين أن قيادة النقابة عقدت في أوقات سابقة العديد من اللقاءات مع جهات عِدة لشرح معاناة آلاف المعلمين الجنوبيين وأسباب الإضراب، أبرزها لقاء مع قائد التحالف العربي في عدن العميد مجاهد العتيبي، الذي كان متجاوباً ومتفهماً لمطالبنا، وسلمناه ملفاً يتضمن مطالبنا، وأبدى استعداده لتوصيلها إلى رئيس الوزراء وجهات الاختصاص في دول التحالف العربي، ممثلة في السعودية والإمارات، كما التقينا رئيس الجمعية الوطنية للمجلس الانتقالي الجنوبي السابق اللواء أحمد سعيد بن بريك، الذي أكد تضامن المجلس مع مطالب المعلمين”. لكن الوعود بقيت حبراً على ورق وظلت معاناة المعلم الجنوبي مستمرة ولم يجد حلاً سوى الإضراب بعد أن اقفلت كل الأبواب في وجهه.
*أرقام مفزعة*
بحسب تقارير منظمة اليونيسف فإن المنظومة التعليمية في اليمن تأثرت بشكل كبير بسبب عدة عوامل، منها التوقف عن صرف رواتب الكوادر التعليمية العاملة في ثلاثة أرباع المدارس الحكومية في مناطق سيطرة الحوثيين،وتأخر الرواتب في مناطق الحكومة الشرعية، مما جعل تعليم قرابة 4.5 ملايين طالب على المحك.
بريتشيل ريلاينو، ممثلة يونيسف باليمن، قالت في تعليقً لها على التقرير إن جيلاً كاملاً من الأطفال يواجه مستقبلاً غامضاً بسبب محدودية حصولهم على التعليم أو عدم توفره، “وحتى أولئك المنضمين للمدارس لا يحصلون على التعليم الجيد الذي يحتاجونه”. ودفع عدم توفر خدمات التعليم، إلى جانب الفقر المُدقع الذي تعاني منه الكثير من الأسر اليمنية، دفع هذا الأطفال إلى بدائل خطرة، منها الزواج المبكر وعمالة الأطفال وتجنيدهم للقتال في مناطق سيطرة الحوثيين.
*مهنة المعلم لم تعد جاذبة*
مهنة المعلم في الجنوب أصبحت أقل جاذبية نتيجة الراتب الضعيف، والتقليل من هيبة واحترام المعلم في مجتمعنا، حيث يندم الكثير من المعلمين اليوم على حظهم، وعلى عدم قدرتهم على تعليم الجيل الجديد بالطرق والإمكانيات الحديثة.
تفنن السلطات في تهميش الإضرابات، وإعطاء المعلمين وعودًا غامضة للغاية ” فاشلة “.مما يفاقم المشكلة ويزيد من إحباط المعلمين ويساهم في انهيار التعليم وتفشي الأمية في الجنوب.
المعلمون اليوم يطالبون برواتب محترمة وبهيكلة أجورهم، حتى تتناسب مع ارتفاع سعر العملات الأجنبية أمام العملة المحلية، وظروف عمل أفضل، و صرف تسويات المعلمين المتأخرة والعلاوات المستحقة، وتحديدها كقرار بأثر رجعي، وإيقاف صرف رواتبهم تحت بند المنح والمساعدات وعبر البنوك التجارية والمصارف، أين الخطأ في هذه المطالب؟
مشاكل المعلمين لا تكمن فقط في الرواتب الضئيلة، بل كذلك في عدم احترامهم من جانب السلطات، وإحجامها عن الدخول في حوار معهم، وعدم اهتمامها المطلق بتطوير التعليم في الجنوب، وبسبب ذلك أصيب العديد من المعلمين بخيبة أمل شديدة، نتيجة عدم تلبية مطالبهم المتكررة، والتي بسببها أصبح نظام التعليم على وشك الانهيار،وإذا لم تقم الحكومة بمعالجة المشكلة فسنرى المدراس تغلق أبوابها نهائياً ولن يكون هناك من يقوم بتدريس الطلاب.
إضراب المعلمين الآن يأتي بسبب عدم تحقيق مطالبهم العادلة، واحترام مكانتهم في المجتمع، وافتقارهم إلى الاستقلالية، فقد أثر الإضراب على قطاعات كبيرة من السكان، وكثير من الآباء الآن لا يعرفون ماذا يفعلون مع أطفالهم ومستقبل أولادهم وتعليمهم على المحك، ومع ذلك حتى مع كل هذا الضجيج والأوضاع المأساوية التي وصل إليها قطاع التعليم في الجنوب ظلت الحكومة تتعامل مع المشكلة بلامبالاة ولا يوجد حل في الأفق ولا يبدو أن أحد يقدر جهود المعلمين ومهنة التدريس التي -كقاعدة عامة- هي مهنة مرهقة وبأجور متواضعة.
*التعليم في الجنوب بين الأمس واليوم
منذ تحقيق الاستقلال الوطني لليمن الجنوبي في 30 نوفمبر 1967، وجلاء الاستعمار البريطاني، وإعلان قيام الدولة الوطنية، خاض الجنوب غمار صراعات متتالية ومعارك عدة تراوحت بين الرغبة في تأسيس الدولة والصراع على السلطة بين أجنحة الحزب، وفي خضم الصراعات والإخفاقات، التي كان سببها في الغالب هيمنة عقلية الإقصاء وسوء إدارة الاختلاف، نجد إنجازات جبارة تمسّ حياة الشعب، وأهم تلك المنجزات توفير التعليم العام المجاني والتطبيب العام. فعلى الرغم من محدودية إمكانيات الدولة آنذاك وتواضع التعليم المتوفر، فإن الدفاع عن التعليم العام وتكافؤ الفرص كان السمة الغالبة لتوجهات الدولة والقيادة آنذاك.
إننا هنا لا نتحدث عن طبيعة البرامج التعليمية، والاعتماد على فلسفة وإيديولوجية مغايرة لثقافة المجتمع، وإنما نتحدث عن التعليم في كونه صار أولوية من أولويات الدولة وقيادة البلد، فقد كان الإعلاء من شأن المصلحة العامة هاجسًا وطنيًّا يحرك الأفعال والقرارات، وهذا الفعل ترك أثرًا بالغًا في الوعي والواقع.
نص دستور جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية على مجانية التعليم، وأن “جميع المواطنين لهم نفس الحق في التعليم، وتضمن الدولة هذا الحق من خلال ما تم تحقيقه من توسع في فرص التعليم لجميع أبناء الشعب ومن خلال خططها الهادفة إلى توسع المدارس والمعاهد…”، وفعلًا سعت الدولة إلى القضاء على الفوارق والطبقية وعدم المساواة التي تتفاقم ملامحها اليوم. كما نفذت الدولة برنامج محو الأمية الشامل، وقد حقّق معظم أهدافه في القضاء على الأمية.
لقد تعرض منجز التعليم في الجنوب، منذ كارثة الوحدة في عام 90م للتدمير، وقد أسهمت عوامل عدة في انهياره؛ عوامل من خارج المنظومة التعليمية من الحكومة، وعوامل من داخل المنظومة التعليمية نفسها.
إنّ أهم عامل أدّى إلى انهيار التعليم في الجنوب خصوصاً بعد العام 2015م هو فساد حكومة الشرعية، وعدم اهتمامها بوضع المعلم المعيشي، فقد غدا المعلم وكل من يشتغل في سلك التدريس بكل مستوياته، أكثر الفئات تضرراً من الأزمة المعيشية وغلاء الأسعار، فصار راتب هذه الشريحة لا يلبي أبسط المتطلبات المعيشية، ولا شكّ في أن هذا الوضع المأساوي قد أثّر في نفسية المعلم ودوافعه ومن ثَمّ أثر سلباً في طبيعة الأداء التدريسي.
من أبرز العوامل التي أسهمت أيضاً في تدمير التعليم، عدم التوظيف الجديد للدماء الجديدة منذ سنوات، إذ إنّ أغلب المعلمين في الميدان قد تجاوزت خدماتهم 35 عامًا، ولا ريب أن وضع هؤلاء النفسي والظروف المعيشية قد حدت من عطائهم، ولجأ بعضهم إلى البحث عن مصادر دخل أخرى لِيَفِي بالتزاماته الأسرية ومتطلبات العيش الأساسية. ونتيجة لذلك، اعتمدت بعض المدارس على المعلمين البدائل، إذ تقوم بخصم جزء من راتب المعلم الموظف الأساسي، وإعطائه للمعلم البديل، وهو في الغالب يتفاوت بين 25-50 ألف ريال. وتبرز هنا إشكالية؛ إذ إنّ غالبية البدائل من الفتيات، مما يصعب تغطية النقص؛ لأن أغلب الخريجين الذكور قد التحقوا بالتشكيلات العسكرية والأمنية؛ لكون رواتبها أكثر بكثير من هذا الفتات، والأمر الآخر أن أغلب الخريجات والخريجين الجيّدين قد استقطبتهم المدارس الخاصة؛ لأنّ رواتبها أفضل من الرواتب في مدارس التعليم العام، وهذا ينعكس على طبيعة العمل التعليمي في مدارس التعليم العام؛ فلا محالة سيكون التعليم ضعيفًا وهشًّا، وهذه سياسية ممنهجة لتدمير التعليم العام؛ إذ نلاحظ في مقابل هذا التدمير للتعليم العام، انتعاشًا للتعليم الخاص والترويج له، فقد شهد التعليم الخاص توسعًا كبيرًا ومريبًا، في ظل الظروف الصعبة التي تعيشها البلاد.
يثير وضع التعليم العام في الجنوب، واليمن عموماً الحسرة والألم، فقد كان من أهم مكتسبات الثورة والاستقلال. ويبدو أنه حتى الأثر في الوعي الذي تركته تجربة النظام الاشتراكي بأهمية التعليم العام ومجانيته والدفاع عنه والإعلاء من المصلحة العامة، يكاد ينمحي ويختفي. إننا لا نجتر الماضي، لكن -للأسف- بدلًا من أن نواكب التطور وروح العصر، نكاد نفقد ما كان موجودًا ومتاحًا.
يشير واقع التعليم اليوم في الجنوب إلى أنّه ليس من أولويات الحكومة مع أنّ التعليم أولوية ملحة؛ وهو أهم مقومات النهوض والتقدم في المجتمعات، والقيادات الوطنية هي تلك التي تهتم بتوفير التعليم المجاني وتكافؤ الفرص، وهي التي تهتم بمواطنيها وتوفير الخدمات الأساسية لهم، وهذا ما حققته الدولة في الجنوب بعد الاستقلال، إذ كانت القيادات الوطنية لها أولويات واهتمامات، وليس لها الطموح التجاري والنهم الرأسمالي، على الرغم من وجود بعض الأخطاء، وربما الكوارث التي رافقت مسيرة النضال والعمل، وهذا المكسب، كان ينبغي الحفاظ عليه والنضال من أجل الدفاع عنه.
زر الذهاب إلى الأعلى