مقالات وتحليلات

١٤ أكتوبر من صمت الجبال إلى لهب الثورة: السرد المقاوم في إمارات وسلطنات الجنوب العربي

١٤ أكتوبر من صمت الجبال إلى لهب الثورة: السرد المقاوم في إمارات وسلطنات الجنوب العربي

كتب/ فضل صالح 

 لم تكن ثورة ١٤ أكتوبر ١٩٦٣، ومضا مفاجئا في سماء الجنوب العربي، بل كانت حصيلة تراكم طويل من الغضب، والكرامة والرفض الصامت الذي ظل يختبئ خلف جدران القصور وفي خيام المشايخ، وعلى جباه الفلاحين والرعاة، وفي أصوات المآذن والقصائد، والنداءات التي لم يسمعها إلا من كان قلبه معلقا بالأرض.

منذ أن وطئت أقدام البريطانيين ميناء عدن في ١٩يناير ١٨٣٩، بدأت الحكاية تتشكل بين رياح البحر، ورمال الجبال. نصب الاستعمار خيمته في عدن، ثم مد أصابعه إلى إمارات وسلطنات، ومشيخات الجنوب العربي، يوقع معها اتفاقيات “حماية” ظاهرها الأمن، وباطنها السيطرة. كانت تلك المعاهدات بداية مرحلة جديدة من الهيمنة، أرادت بريطانيا أن تجعلها نظاما مستداما، يضمن مصالحها في الميناء والمضيق والسماء. لكن ما لم تدركه حينها، أن تحت الرماد كانت جمرة لم تنطفئ.

 *حين انتفضت الجغرافيا:* 

*إمارات تقاوم بالصوت والسلاح*

  في لحج، وقف سلطانه أنذاك موقفا يُسجّل في الذاكرة الوطنية، حين رفض أن يكون مجرد تابع لسلطنة أجنبية تملي عليه القرارات باسم “النصح والإرشاد”. واجه النفوذ البريطاني بإصرار، وأفسح المجال للمثقفين والوطنيين لرفع أصواتهم ضد الوجود الاستعماري. كانت لحج. بعمرانها وتاريخها الفني والسياسي. من أولى الإمارات التي أدركت أن الكرامة لا تُدار بمشاهدة. بل تُحمى بموقف.

 وفي الضالع، ارتفعت البنادق والصدور، لا بمعارك تقليدية فحسب، بل عبر نضال مجتمعي قاده أمراء الضالع، ومشائخ القبائل، وأبناء الضالع الذين آمنوا أن الجنوب لن يكون حرّا إلا إذا تحررت الجبال أولا هنا، لم تكن المقاومة شعارا، بل حياة يومية، تفيض فيها الشجاعة كما يفيض المطر على وديان يافع وردفان.

أما سلطنة العوالق في شبوة، فقد كانت من أوائل من أدركوا أن الاستعمار يسعى لتفتيت البنية القبلية وتحويلها إلى جزر معزولة يسهل إخضاعها. لذا وقف شيوخ القبائل فيها صفا واحدا، يرسلون رسائل التحذير إلى أبناء القبائل الأخرى: “الحرية لا تُشترى بالمعونات، ولا تكتب بالحبر الإنجليزي”.

وفي يافع تلك الجبال العالية التي تراقب البحر من بعيد، شكلت الوعي المقاوم بأسلوبها الخاص: الصلابة، والاعتداد بالنفس، والرفض القاطع لأي وصاية. لم يكن في لهجة أبنائها سوى نداء الأرض والهوية.

*إمارات ومشائخ وسلطنات الجنوب …ذاكرة الوعي الشعبي*

 كان للمشايخ في الجنوب دور يتجاوز الزعامة التقليدية. فهم حماة الأرض. وحُرّاس الشرف. ووسطاء بين القبيلة والسلطة. حين حاول البريطانيون شراء الولاءات، وجدوا أن الكرامة عند شيوخ الجنوب العربي لا تُقاس بالذهب، بل بالموقف.

كان بعضهم يعلن مقاومته جهارا، وبعضهم يمارسها سرا في الخفاء، يؤوي الثوار، وينقل الرسائل، ويسهل مرور السلاح إلى الجبال.

في بعض ليالي ردفان، كان الشيخ يجلس بين رجاله، يحدثهم عن الوطن، ثم يرسل أبناءه ليلتحقوا بالثوار في الوهاد. هناك. كانت الكلمة بندقية، والبندقية قصيدة.

*السرد الشعبي…وجدان الثورة* 

  لم تكن المقاومة عملا عسكريا فحسب. بل كانت مقاومة ثقافية. غرسها الشعراء والمغنون، وصاغها الوعاظ والعلماء، وحملها المثقفون في المدن، والوادي. في لحج. وعدن والضالع، وأبين، ويافع، وشبوة، وحضرموت، والمهرة، وسقطرى، كانت القصيدة تغنى قبل أن تنفجر الرصاصة، وكانت الأغنية الوطنية تسبر بين القرى كرسالة سرية تقول: “الحرية قادمة”.

إن سرد الجنوب العربي في تلك المرحلة ليس سرد الملوك والسلاطين وحدهم، بل سرد الجماعة التي تماهت فيها الأدوار: الأمير يساند الشيخ، والشيخ يساند الفلاح. وعالم الدين يبارك الثائر، والجدات يخبئن الذخيرة تحت أقمصة الأطفال. كل بيت كان جبهة، وكل جبهة كانت وعدا بميلاد وطن جديد.

*من الوعي القبلي إلى الوعي الوطني*

مع مرور الزمن. تحوّل الوعي القبلي. الذي كان يقوم على الانتماء إلى الأرض والعشيرة، إلى وعي وطني جامع يرى في الاستقلال قضية الجميع. ساهمت إمارات الجنوب. والمشيخات. والسلطنات في بناء الوعي، فقد أدركت أن كرامة الوطن الجمعية. مشروطة بكرامة مواطنيه. وهكذا، بدأت الجدران القديمة تتصدع أمام زحف الفكرة الجديدة:

إن الوطن لا يُحكم من وراء البحر. وأن القرار لا يُصاغ في السفارات، بل في الميادين، في ردفان وعدن والضالع، وأبين وشبوة، وحضرموت والمهرة، وسقطرى.

*من لهب الأمس إلى وعي اليوم*

بعد اثنين وستين عاما، حين نستعيد ثورة ١٤ أكتوبر، لا نقرأها كحدث عابر، بل كملحمة سردية، كتبتها إمارات وسطلنات ومشيخات ونساء، ورجال، وجنود وأطفال الجنوب، بدماء لا تُنسى.

  لقد أثبتت التجربة أن الجنوب العربي لم يكن ساحة نفوذ كما أراده المستعمر، بل فضاء إنسانيا حرا أنتج ثقافة المقاومة، وصاغ نموذجا عربيا فريدا في كفاح الشعوب ضد الإمبراطورية.

  

في النهاية، لا يمكن أن نفهم ثورة ١٤ أكتوبر إلا باعتبارها مجموع أصوات الأمير، والسلطان، والشيخ، والقبيلة، والمدينة، والفلاح، والرجل والمرأة.

تلك الأصوات التي وحّدت الجنوب على كلمة واحدة: 

“الحرية أثمن والكرامة لا تُورّث، بل تنتزع”.

إن استعادة ذاكرة ١٤ أكتوبر ليست استحضارا لماض جميل فحسب، بل هي مساءلة للحاضر بعيون التاريخ. فالثوار بجميع فئاتهم، لم يكونوا يبحثون عن مجد شخصي، بل عن وطن يسكنه العدل وتزهر فيه الحرية والكرامة. واليوم، بعد اثنين وستين عاما من ذلك اللهب الذي أضاء سماء الحنوب، ينتظر من الأجيال الجديدة أن تحمل الشعلة نفسها، لا كرمز للماضي، بل كأفق للمستقبل.

فالتحرر لا يكتمل بإزاحة النستعمر، بل بتحرير الإنسان من الخوف، والجهل. والانقسام، وبناء وعي جديد يربط بين الوطن والمواطنة، بين الجبل والبحر. بين التاريخ والحلم. إن الجنوب الذي قاوم بالأغنية، والبندقية، قادر اليوم أن يقاوم بالمعرفة والوعي، وأن يحول ذاكرة الثورة إلى مشروع نهضة إنسانية مستمرة، تحفظ إرث الأجداد وتعيد صياغة الحاضر بكرامة الأحرار.

مشــــاركـــة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى