بقلم / نورا المطيري
هذه الأيام يكتب الجنوب العربي الفصل الأهم في تاريخه المعاصر، ويضع بشكل نهائي خريطة الدولة القادمة على إيقاع الجماهير المنتفضة في سيئون وعدن والمكلا..
ويشكل الاعتصام المفتوح، الذي أطلقه المجلس الانتقالي الجنوبي بقيادة الرئيس عيدروس الزبيدي، بداية واضحة لإعلان استقلال الدولة، وتحويل المشروع السياسي من طموح إلى واقع تحرّكه المؤسسات وتثبته الإرادة الشعبية.
في عدن، تُنصب خيام السيادة. وبالطبع، فإنه في حضرموت كما في عدن، يتقدّم الحشد المدني والعسكري بتنظيم مدروس، يعكس ثبات القرار السياسي للقيادة الجنوبية. ميادين الجنوب تفيض بالرسائل، وكل شبر من الأرض يُعاد تعريفه كجزء من دولة الجنوب العربي، بسيادتها الكاملة وحدودها التاريخية، ونظامها الذي يضمن الحرية والكرامة والتنمية.
الرؤية التي يطرحها القائد عيدروس الزبيدي تتجاوز المربع السياسي التقليدي، حيث ترتكز ملامح الدولة القادمة على إرث نضالي عميق، وتمتد بخريطة مرنة تستوعب تحولات الميدان والديموغرافيا، وأعتقد أن صدى تصريحات الزبيدي في نيويورك وواشنطن وجنيف قد رسمت خطوطا صريحة لحل الدولتين: شمال يقرر مصيره، وجنوب يُعيد بناء دولته.
من وجهة نظري، فإن ما يميز هذا المشروع هو قدرته على تجاوز النموذج اليمني نفسه، باتجاه رؤى أوسع ومقاربات ناجحة عالميا. انفصال تشيكوسلوفاكيا عام 1993 إلى دولتين مستقلتين — التشيك وسلوفاكيا — كان خيارا سياسيا راشدا، اختارته النخب والشعوب حين وصلت الوحدة إلى طريق مسدود. وقد أثبت الزمن أنه حل سلمي وعقلاني، أنقذ البلدين من شقاق أعمق. واليوم، الجنوب العربي يطرح مقاربة تكاد تكون مشابهة، مستندا إلى الحق، وإرادة الشارع، وتجارب الدول الحديثة.
والسؤال الذي أطرحه هنا بقوة ليقلق مضجع كل سياسي يتردد أو يراوغ: لماذا ينبغي أن يُفسخ اتفاق الوحدة المشؤوم عبر الدم والمعارك الدامية التي لا تبقي ولا تذر؟ لماذا نعيد سيناريو السودان الذي انتظر مئات الآلاف من القتلى في دارفور وكردفان قبل أن يعترف العالم بحق تقرير المصير؟ لماذا نمرّ من بوابة الطوفان كما جرى في إريتريا، أو نحاكي كوسوفو التي دفعت ثمنا فادحا قبل أن تولد كدولة؟ كلنا نعرف أن الجنوب العربي اليوم يمتلك فرصة تاريخية لتفادي كارثة محتومة، ويقدّم للعالم أنموذجا مختلفا: استعادة الدولة بالوسائل السياسية السلمية، فهل يعقل أن ينتظر العقلاء انهيار كل شيء، فقط كي يوقعوا على حلّ كان ممكنا بلا قطرة دم واحدة؟
انظروا إلى أبناء تعز ومأرب كيف يعلنون عن انتمائهم للمشروع الجنوبي، وكذلك الكثير من المكونات السياسية في مناطق الشمال التي تتفاعل مع الأطروحة الجنوبية باعتبارها المخرج الوحيد من أزمة اليمن المتراكمة، حتى الجغرافيا نفسها تتكيف على إيقاع هذا الموقف السياسي، وكذلك الديموغرافيا تتحرك نحو خيارات سيادية جديدة.
بلا شك فإن التحركات الأخيرة للمجلس الانتقالي الجنوبي تعكس مستوى غير مسبوق من التناسق بين القيادة السياسية والميدان الشعبي، من جهة فإن الاعتصامات التي انطلقت بدعوة مباشرة من القيادة المحلية والهيئة التنفيذية في عدن وحضرموت، وجاءت عقب اجتماعات تنفيذية حضرها نائب رئيس المجلس الرئاسي ووزير الدفاع ومحافظون وشخصيات رفيعة، قد منحت هذه التحركات غطاءً سياسيا كاملا، ومن جهة أخرى أكدت أن خيار الاستقلال يدخل طور التنفيذ الفعلي الذي لا رجعة عنه.
المجلس الانتقالي الجنوبي، أثبت أنه مظلة سياسية وإدارية، تمتلك رؤية اقتصادية وأمنية عميقة، يمكنها بكل سلاسة رسم تموضع الجنوب في الخارطة الإقليمية كحليف قوي ومستقر، وشريك في أمن الخليج والبحر الأحمر.
من وجهة نظري، فإن سلطة الحوثي في الشمال تفقد سيطرتها يوما بعد يوم. خطوط المواجهة تتسع، والتحالفات القبلية والسياسية تتآكل. في المقابل، المشروع الإخواني يواجه انهيارا متعدد الجبهات، من مأرب إلى شبوة، ومن حضرموت إلى المهرة. التنظيمات التي استندت على الولاءات المؤقتة تواجه اليوم جدارا شعبيا وسياسيا لا يمكن تجاوزه.
التنظيم الإخواني الإرهابي الفاسد في اليمن أصبح يتفنن في إنتاج العنف كلما شعر بأنه يخسر سلطته وأوراقه، ولديهم الاستعداد، في أتباع سياسة الأرض المحروقة دون أن يرف لهم جفن، بلا مشاعر ولا أحاسيس، ولكن القوى الجنوبية التي تتقدّم حاليا بحل سياسي يحظى بدعم إقليمي ودولي متصاعد، لن تنتظر أن يعلنها الإخوان مرة أخرى كما في العام 1994 لاجتياح الجنوب وإعادة تدميره، بل سيبادرون في ملاحقة فلولهم في كل مكان.
لاحظوا أن المشهد في سيئون والمكلا يتجاوز لحظة احتجاج، حيث إن الاعتصامات المفتوحة تحوّلت فعلا إلى غرف حوار ميدانية، وقواعد انطلاق لتطبيع السيادة الجنوبية على الأرض، بقرار من المؤسسات ووعي من الجماهير. ظهرت دعوات الحشد إلى برنامج كامل متكامل يرتكز على حماية الأمن، واستعادة الثروات، وتفعيل مؤسسات الإدارة، وإعلان الدولة وفق معادلة سياسية متزنة.
يرى المجتمع الدولي الآن، أن الرئيس عيدروس الزبيدي، وفي كل خطاب وموقف، يمارس الفعل السيادي بمسؤولية عالية، ويتقدّم خطوة بعد أخرى نحو تدويل القضية الجنوبية ضمن إطار واضح: حل الدولتين، بناء الدولة الفيدرالية، وتوسيع الشراكات الإقليمية والدولية.
الرؤية التي يطرحها المجلس الانتقالي الجنوبي تؤسس بشكل واضح لشراكة مع الخليج، ولفتح أفق مع اتفاقيات أبراهام وفق شروط تحترم السيادة الفلسطينية وتضمن الاعتراف المتبادل.
وفي لحظة نضج سياسي ليس لها مثيل، حيث تتقاطع الجغرافيا مع التاريخ، مع الواقع السياسي، تعيد دولة الجنوب العربي صياغة المفاهيم، وتقدم للعالم الدولة كنموذج جديد للدولة، العادلة في مشروعها، القوية في قرارها الواضحة في تحالفاتها، والمسلحة بشرعية شعب الجنوب المتعطش بلا حدود لاستعادة دولته التاريخية
زر الذهاب إلى الأعلى