كتب / مشتاق العلوي
رغم مقتي للزحام والضجيج الصادر عن العوام، إلا أن هناك ضجيجًا قد لامس قلبي. إذ حصل انسجام غريب بين نفسي وذلك الضجيج، فشعرت نفسي بالأمان والسكينة فور سماعها له. ومع ذلك، ما زلت أجهل السر الذي جمع بين المتنافرين.
وبدون شك، قد تريد أيها القارئ معرفة ما هو ذلك الضجيج؟ بالطبع سأخبرك الآن.
نعم، إنه ضجيج الأمواج المتدفقة من البحر إلى الساحل، ذلك الصوت الذي يرافق لحظات التأمل والخلوة والاستكانة. وقد شعرت بهذا الإحساس مرارًا عند جلوسي على أطراف البحر.
واليوم، خلال تواجدي على ساحل البريقة (كود النمر)، اخترت الابتعاد عن الزملاء وأخذت مكانًا غربيًا لا يوجد فيه أحد. حتى الغربان التي تملأ سماء العاصمة عدن لم يكن لها وجود في الجوار.
وعند مشاهدتي تلك السيمفونية الربانية لتدفق الأمواج، وذلك الضجيج الناتج عنها، تأكدت أن هذا الصوت مختلف تمامًا. فقد أخذني بعيدًا عن فوضى العالم المحيط، ليلامس أعمق أعماق نفسي، ويعيد ترتيب نبضات قلبي، وكأنه أنشودة خفية تغني في صدري.
نعم، إنه صوت الأمواج، ذلك الهمس الساحر الفريد الذي يحمله البحر في رحلته الأبدية نحو الساحل. هناك، بين انكسار الأمواج وارتدادها، شعرت بشيء يربت على قلبي، يدعوني للإنصات بكل حواسي.
أخرجت علبة سجائري. رغم إدماني، إلا أنها ظلت شبه ممتلئة في هذا المكان، بسبب شرودي مع نفسي، فلم أجد وقتًا لشرب المزيد منها. يبدو أن أصوات الأمواج أخذت مكان الدخان في ملء فراغي.
كنت شاردًا تمامًا، لا أدري إن كنت أفكر أم أستمتع؛ حيث شعرت وكأنني أذوب في مشهد درامي مستوحى من الخيال. شعرت أن هناك لغة غير منطوقة تجمعني بالبحر، أو ربما حديثًا داخليًا مع الذات، لكنه بلسان البحر.
وما كان يدهشني حقًا هو ذلك التناقض! كيف يجمع البحر بين النقيضين: الفوضى والسكينة؟ كيف يصرخ بوجهي بصوت عالٍ جدًا، ثم يهديني صمتًا داخليًا أعمق من أي سكينة عرفتها؟ وكأن كل موجة تأتي محملة برسالة، وتقول لي إن الاتساق الحقيقي ليس في غياب الضجيج، بل في إيجاد جمال روحي وسط الفوضى.
هناك، على أطراف مدينة البريقة، شعرت أنني أولد من جديد.
إذ كل ما كان ثقيلًا أصبح خفيفًا، وكل ما بدا غامضًا وضبابيًا صار واضحًا كصفحة البحر تحت شمس المغيب.
حينها أدركت أن الضجيج الذي تألفه نفسي ليس مجرد أصوات عشوائية. إنه الحياة بذاتها. وحين تكشف الحياة عن وجهها الطبيعي، وجهها الذي لا يراه إلا من جلس على حافة الكون واستمتع، يصبح لها طعم مختلف وشكل آخر على غير المألوف.
زر الذهاب إلى الأعلى