مقالات وتحليلات

تصريحات ترامب حول تهجير سكان غزة، وإستراتيجية الإلهاء

تصريحات ترامب حول تهجير سكان غزة، وإستراتيجية الإلهاء

كتب :  فؤاد قائد جُباري 

في خضم الأزمات الإنسانية والسياسية التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط، وعلى رأسها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ظهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب – بعد أيام قليلة من تنصيبه في البيت الأبيض لولاية ثانية – بتصريحات مثيرة للجدل حول تهجير سكان غزة إلى مصر والأردن. هذه التصريحات، التي جاءت في سياق متشابك من العلاقات الدولية والسياسات الإقليمية، تثير تساؤلات حول أهدافها الحقيقية وتأثيرها على القضية الفلسطينية، خاصة في ظل الدور الآني الذي تلعبه إسرائيل والولايات المتحدة في تشكيل المشهد السياسي في المنطقة.

    تصريحات ترامب لم تأتِ من فراغ؛ بل هي جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى إعادة تشكيل النقاش العالمي حول القضية الفلسطينية، خصوصًا بعد أحداث غزة الأخيرة. فمنذ توليه الرئاسة في الفترة السابقة، عمل ترامب على تعزيز العلاقات مع إسرائيل، بدءًا من نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، مرورًا بالاعتراف بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان في العام 2019، ووصولًا إلى الترويج لـ”صفقة القرن” في مطلع العام 2020، والتي أثارت غضبًا عربيًا وإسلاميًا واسعًا ورفضًا صريحًا من قبل الأمم المتحدة، كونها تتناقض مع قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بفلسطين. تصريحاته الأخيرة، التي استهل بها ولايته الثانية (الحالية) حول تهجير سكان غزة، والتي تأتي ضمن دعمه الصريح والثابت لإسرائيل، تبدو وكأنها محاولة لصرف الأنظار هذه المرة عن الجرائم الإسرائيلية في غزة، والتي شهدت موجات عنف متكررة أدت إلى سقوط أكثر من 47 ألف شهيد وإصابة نحو 110 آلاف بحسب وزارة الصحة الفلسطينية، معظمهم من شريحة النساء والأطفال، ناهيك عن تدمير نحو 80% من البنية التحتية للقطاع بحسب تقارير منظمات دولية.

    ما يلفت الانتباه في تصريحات ترامب هذه المرة – التي جاءت لتتماهى مع السياق الإسرائيلي – هو توقيتها وطريقة طرحها؛ فبدلًا من التركيز على محاسبة إسرائيل على انتهاكاتها لحقوق الإنسان وارتكاب جرائم حرب في غزة وفقًا للمادة الـ8 من اتفاقية روما الدولية لمحكمة الجنايات الدولية (1998) المتعلقة بالقانون الدولي الإنساني، يتم تحويل النقاش إلى قضية التهجير، وهي قضية تبدو مستحيلة من الناحية العملية بسبب رفض مصر والأردن القاطع لها وكل دول العالم العربي والإسلامي والكثير من دول العالم بما فيها روسيا والصين وبعض دول الاتحاد الأوروبي، ومن الناحية المصيرية للفلسطينيين أنفسهم. هذا التحويل للنقاش لا شك يخدم مصلحة إسرائيل والولايات المتحدة بدرجة رئيسة؛ حيث يتم إبعاد الأنظار عن الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في غزة، – بدعم عسكري وسياسي أمريكي مباشر – وما نتج عنه من مذكرات اعتقال بحق نتنياهو (رئيس الحكومة الإسرائيلية) ويوآف غالانت (وزير دفاعها) من قبل الجنائية الدولية، ويتم خلق حالة من الجدل الإعلامي والسياسي حول قضية جانبية (التهجير).

    ترامب، بذكائه الإعلامي المعهود، استطاع فعلًا أن يخلق حالة من الضجيج الإعلامي حول فكرة التهجير، مما أدى إلى انشغال العالم العربي والإسلامي – وحتى الدول والمنظمات الدولية – بهذه القضية، بدلًا من التركيز على المطالبة بمحاسبة إسرائيل عن جرائمها والتزاماتها الإنسانية وكذلك ملف إعادة الإعمار… هذه الاستراتيجية تذكرنا بأساليب الدعاية السياسية أو ما تسمى في الإعلام “إستراتيجية الإلهاء” (Distraction Strategy) التي تعتمد على خلق قضايا جانبية [مثيرة للجدل] لصرف الانتباه عن القضايا الرئيسة.

    الإعلام الغربي، – خاصة المؤسسات الإعلامية الكبرى التي تسيطر عليها النخب السياسية المؤيدة لإسرائيل – لعب دورًا محوريًا في تعزيز هذه الاستراتيجية؛ فبدلًا من تسليط الضوء على المعاناة الإنسانية في غزة والجرائم الإسرائيلية التي ارتُكبت، تم التركيز على تصريحات الرئيس ترامب وردود الفعل عليها… هذا التحيز الإعلامي أدى إلى تشتيت الانتباه عن القضية الأساسية، وهي محاسبة إسرائيل على انتهاكاتها وجرائمها وإغاثة النازحين وإعادة إعمار ما دمرته الحرب.

   الإعلام العربي، من جهته، وقع في الفخ أيضًا؛ فبدلًا من توحيد الجهود للضغط على المجتمع الدولي لمحاسبة إسرائيل، تم استهلاك جزء كبير من الطاقة الإعلامية والسياسية في الرد على تصريحات ترامب والتحذير من مخاطر التهجير. هذا الانشغال بالقضية الجانبية أدى إلى إضعاف الموقف العربي والإسلامي في الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني عمومًا والمعاناة الإنسانية الآنية في قطاع غزة خصوصًا.

   النتيجة الأبرز لهذه الاستراتيجية هي إبقاء إسرائيل والولايات المتحدة في منأى عن المساءلة القانونية أمام المجتمع الدولي؛ فبينما ينشغل العالم بجدل التهجير، يتم تجاهل القضايا الأكثر إلحاحًا مثل إيواء النازحين، وإعادة إعمار غزة، وحماية المدنيين، ومحاسبة المسؤولين في إسرائيل عن الجرائم التي ارتُكبت خلال الحرب الأخيرة في غزة. هذا التشتيت للانتباه يخدم مصلحة إسرائيل، التي تستمر في سياساتها التوسعية المتطرفة دون مواجهة ضغوط دولية حقيقية.

   في أوج هذه التحديات، بات من الضروري أن تعيد الدول العربية والإسلامية تقييم استراتيجياتها الإعلامية والسياسية؛ فبدلًا من الانجرار وراء الجدل الذي تثيره تصريحات مثل تلك التي أطلقها ترامب ونتنياهو، يجب التركيز على بناء تحالفات دولية للضغط على إسرائيل ومحاسبتها على انتهاكاتها. كما يجب العمل على تعزيز الرواية الفلسطينية في الإعلام العالمي، وتسليط الضوء على المعاناة الإنسانية في غزة بدلًا من الانشغال بموضوع التهجير المستحيلة وغير المنطقية وفقًا للواقع الإيديولوجي المترسخ للشعب الفلسطيني بالتمسك بالأرض ومعه الموقف العربي والدولي الداعم لسياسة حل الدولتين.

    تصريحات ترامب ونتنياهو المتزامنة – البعيدة عن الحصافة الدبلوماسية – المتعلقة بترحيل سكان غزة – والتي سنرى المزيد منها في قادم الأيام – ليست مجرد تصريحات عابرة؛ بل هي جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى حماية إسرائيل من المساءلة على جرائمها بصفة رئيسة. وفي مواجهة هذه الاستراتيجية، يجب على العالم العربي والإسلامي أن يعتمد على رؤية واضحة واستراتيجية موحدة للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، وعدم السماح بتشتيت الانتباه عن القضايا الأساسية.

مشــــاركـــة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى