عبّود الغزّاوي
صوت الضالع / د. احمد عبداللاه
غزة لا تصمت مثل هيروشيما، وليس لديها بروتوكولات الاختباء من الموت. هكذا يفهم عبود.. لذلك يصعد إلى السطوح وينقل بطريقته الساخرة أخبار القطاع. كوميديا سوداء، بفطرته البريئة، تجعله يتقمص شخصية مراسل إحدى القنوات و ينقل الأخبار وتعليقات خفيفة الظل بينما محيطه مثقل بأحزمة النار والدمار.
عبود الصغير لم يقرأ بعد كتب التاريخ، ولم يخطر ببال أحد من أترابه أن يفعل ذلك. لا جدوى الآن من تتبّع الحكايات العتيقة لأن تاريخه الحقيقي يبدأ من هنا، من جدار عازل يفصل غزة عن شرقها، و منافذ محروسة بالجنود تحصرها من شمالها ومن جنوبها وبحر أسير في غربها يفصل غزة عن كوكب الأرض. تلك حدود الفتى الغزاوي الذي لم يرَ بعد كيف يعيش العالم خلف البحر وخلف الجدار والحواجز.
لكن العالم مع كل حرب يذهب للبحث في الكتب المقدسة وفي التاريخ والأساطير عن إجابات لألف سؤال: عن مسرح التوراة، وإلى أين ذهب يوشع بن نون بشعبه و أين (يريخو) الحقيقية وهل أمرت السماء باحراقها وقتل أهلها؟ ولماذا؟ وما هي حدود أرض الميعاد الكنعانية ومساحتها و تضاريسها؟ وأين أرض الاربعين عاماً من التيه؟ ولماذا لم يقدم علم الآثار أي دليل؟ وماذا كانت تسمى البلدان والأماكن باللغات القديمة المختلفة قبل آلاف السنين؟
هل درس مختصون عرب اللغات العبرية والآرامية وتاريخ الأديان والحضارات القديمة ووضعوا أصابعهم على جراحاته ورأوا الخلط بين المقدس والأسطورة ونشروا وأثّروا؟ لا لم يفعلوا إلا النادرجداً، فقد تُرك العرب، منذ زمن “دع سمائي فسمائي محرقة” وحتى “ازدهار الخطاب الديني المتطرف” ثم “مشاريع مدن الصحراء الخارقة”، خلف سياج المعارف الحقيقية إلا القليل منهم حتى أصبحت النخب المثقفة محصورة بين اصطلاحات ترددها دون بحث عن الجذور وما إذا كانت دلالاتها تنطبق على الواقع.
هناك ألف شظية من حكايات التاريخ والحضارات والميثولوجيا والكتب المقدسة و من الصعب أن تجتمع في نسق حقيقي واحد أو أن يجتمع العلماء حولها. وهناك تشظي واسع في عناصر الهوية الإسرائيلية المعاصرة، الثقافية والتاريخية والجغرافية وحتى العرقية، انعكس حتى في الخلاف حول النشيد الوطني (هاتيكفاه).. لكن القوة استطاعت أن تخلق أمراً واقعاً في الشرق الأوسط وما تزال محاولات اخراج فلسطين من جغرافيتها متواترة منذ ما قبل عام النكبة وحتى حرب غزة الحالية.
لهذا لا حقيقة ماثلة الآن سوى أن هناك احتلال وأن “دولة إسرائيل” المعاصرة، التي تأسست على خلفية فرضيات لاهوتية وإرادة غربية، هي “شعب الغرب المختار” تم توطينه خارج حدودهم ويدافعون عنه بعقيدة صهيونية عابرة للديانات، ليصبح اليهودي من كراكوف أو من شيكاغو أو أي مدينة أخرى مواطناً إسرائيلياً يأتي إلى “الأرض الموعودة” حين يشاء ويمتلك الحق في طرد صاحب الأرض وصاحب البيت وصاحب المرعى. فلم ير العالم موكب فرعون لكنه عاصر معسكر أوشفيتز ولم يسمع نبؤات إشعياء لكنه يفهم وعد بلفور ولا يهمه نشيد الانشاد وبنات اورشليم او خيام قيدار السوداء لكن يستفزه حتى الوجع علَم المحتل والموسيقى الصاخبة التي ترافق عربدة جنوده. وقبل ذلك يدرك العالم كيف تحول كتاب يحتوي أسفار خمسة ومزامير وأساطير الى أيديولوجية صهيونية على يد رجل واحد غيّر عقيدة استيعاب اليهود في أوروبا إلى نظرية الانسحاب منها؟
حسناً يا عبود الغزاوي.. لقد تهنا عنك هنا مثلما تاه العرب عن قضيتك، لكنك تظل المتن في هذا النص وغيره، لأن ابتسامتك الفلسطينية تجسد خارطة الأمل في وجه البؤس العربي، حين تسخر من وحشية الصهيوني الذي نقل وبصورة اكثر رعب طرق الإبادة و الغيتوات من أوروبا الى فلسطين حتى أصبح ارتكاب المجازر سمة أساسية لدولة الاحتلال. إنهم يتفوقون في ارتكاب الجريمة وفي تسويق مشاعر الضحية التاريخية واستدعاء الهولوكوست وممارسة الابتزاز السيكولوجي والسياسي بخطاباتهم وتصوير صراعهم وكأنه بين مجتمع متحضر وآخر إرهابي.
لقد شعر الغرب مؤخراً بأن “الغضب الساطع” يكبر تحت رمال غزة فذهب بكل عقيدته وقواه للنجدة بينما وقف النظام العربي كعادته خلف خطابات الحد الأدنى و المناشدات العقيمة أو الاستنكار اللفظي، حتى بعد أن لفظ آلاف من أطفال غزة أنفاسهم تحت الأنقاض. فهل ينظر العرب إلى حقيقة أنه كلما توسع التطبيع توحش الكيان الصهيوني أكثر؟
عبود الغزاوي مايزال واقفاً تحت القصف العشوائي الهمجي لكنه قادر أن يذيع على مسامع العالم اخبار غزة و يوزع ابتسامته الساخرة على الهواء المثقل بغبار الأحياء المنكوبة. لا تمت يا عبود فحولك عرب تفرقوا عبابيد، و عليك أن تنتصر لأن روحك هي من روح غزة الصامدة.
احمد عبد اللاه