كتب/ فضل صالح
في حضرموت الوادي، حضرموت التاريخ والحضارة، حيث تولد الشمس من خاصرة الرمل، وحيث تهجع الواحات كقصائد نائمة على صدر الزمن، وتتدلى الذاكرة من نخيل يشبه حكماء الصحراء، نهض المكان؛ ليكتب سيرته بيد أبنائه لا بيد العابرين.
كان الليل قد طال في الوادي، وكانت الفوضى تتسرب إلى الأزقة والطرقات، حتى جاء أبناء الجنوب يسندون النخبة الحضرمية، لا ليكونوا بديلا عنها، بل ليعيدوا الحق إلى حضرموت… حضرموت التي لا تقاد إلا لأهلها.
هناك تزيح الأرض غبار القرون، وتخاطب ساكنيها: “عودوا… فالدار لا تعرف إلا خطاكم.”
وفي المسافة الممتدة بين الجبال والسماء، كان صوت خافت يشق الصمت؛ صوت حضرموت وهي تستعيد أسماءها القديمة.
في قلب تلك اللحظات، خرجت بطولات تشبه ما تنسجه الأساطير حين تستيقظ.
أول المقاومين تقدّم وحده يقود مدرعته، لا سند له إلا معرفته الدقيقة بسلوك الدبابة التي واجهها.
وقف أمامها كما لو أنه يقف أمام قدره.
كان يعرف صوت محركاتها، ويعرف نقاط ضعفها، ويعرف ثِقلها حين تدور، ويعرف كيف يُروّض الحديد الشرس بعقل تشكّل على رائحة التراب.
واجهها منفردا، لا حماية له سوى جرأة تشبه حد السيف عندما يلامس الفجر.
اندفعت الدبابة كوحش مستثار، لكنه لم يتراجع.
تقدّم، وناور، وأربكها، حتى تحوّل صريرها إلى صمت مضطرب… وانكفأت المعركة لصالح رجل حمل على كتفيه معنى الجنوب كلّه.
وفي موقع آخر، اندفع آخر نحو دبابة أخرى. صعد على ظهرها في لحظة خاطفة، فتح فمها المكلّل بالنار، وسيطر عليها كأنه ينتزع من الحديد روحه.
وثالث صعد على طائرة (هيلوكبتر) رابضة في معسكر التمرد، كأنه يرتقي على سحابة ثقيلة، ثم وجهها ضد من ظنوا أن السماء لن تقاتل معهم.
وفي مشهد آخر بات يُروى كحكايات أهل السمر، تقدّمت قوة جنوبية عبر طرق الوادي تبحث عن مقرّ المحافظة.
توقفت أمام رجال حضارم كانوا قد خرجوا من منازلهم حاملين بنادقهم، متجهين نحو ميدان المعركة لنصرة نخبتهم العسكرية، وإسناد إخوانهم من قوات المقاومة الجنوبية.
سألوهم عن الطريق. فأشار أحدهم نحو المبنى القريب بيد هادئة كهدوء حضرموت حين تتفكّر.
لم يكن الرجل يبلغ ساحة المعركة حتى كانت قوات النخبة الحضرمية، والمقاومة الجنوبية قد أتمتا المهمة؛ فقد اندفعت القوات كريح تعرف وجهتها، وبعد ما يقارب عشرين دقيقة كان علم الجنوب يرفرف فوق المقر، عقب اشتباكات مزّقت صمت الصباح.
واستمرت القوات الجنوبية في أداء مهمتها، مساندة النخبة الحضرمية لتحرير الوادي من قبضة المنطقة العسكرية الأولى التي تخلّت عن التزامات اتفاق الرياض، وانحازت للفوضى. وساندت جماعات مسلحة أثقلت حياة الناس بالتقطع لموارد النفط والطرق الحيوية، كما وثّقت تقارير عديدة.
لقد كان الهدف واضحا منذ البداية، أن تُعاد حضرموت إلى أبنائها، وأن تُدار بوجوه تعرف رائحة الوادي، ولون صخوره.
ومع دخول قوات النخبة الحضرمية، والمقاومة الجنوبية إلى سيئون، وتسلّمها مواقع المنطقة الأولى، بدأ الوادي يتنفس من جديد، ووقف أبناء حضرموت يحرسون أحياءهم ومؤسساتهم، كأن الأرض تعيد ميثاقها الأول مع أهلها.
وفي خاتمة الحكاية، يبقى المعنى ثابتا:
إن حضرموت ليست جغرافيا فحسب، بل ذاكرة تاريخية لا تقبل التزوير، وأنها حقّ لا يُدار إلا بواسطة أهله… مهما اشتدّت العواصف وارتفعت الرياح.
زر الذهاب إلى الأعلى