سهر الشوق
صوت الضالع / احمد عبد اللاه
تفتح النافذة في الجهة الجنوبية من الحجرة وتطل على سور يحجب خلفه امتداد ترابي يؤدي إلى بيوت من الصفيح.
ليست الزمالك بالمعنى العثماني الذي نقل إلى مصر، بل المحاريق، أكثر زملكاوية بالعدني. لا يشبهها سوى ما نتخيله في روايات لاتينية قديمة.
بيوت الصفيح تتخللها طرق ترابية ضيقة وملتوية قد تأخذ خطاك الى ضياع صغير في مساء لا أهمية له، سوى أن تراقب فيه وجوهاً أنهكها العطش قبل أن تعود إلى تلك الحجرة التي تطل من نافذتها الآن.
أفق شتوي يمتد الى حيث تنتهي الخرائط و يهيم فوق شجيرات تتناثر على المساحات الترابية كأشباح خضراء.
هل كنت عائداً من مشوار طويل؟ يبدو هكذا! ربما من سينما الشرق في الشيخ عثمان أو من مقهى شعبي في قلب المدينة. لقد عدت الآن. وها أنت أمام الشباك تبحث عن طريق
تركت عليها خطاك الصغيرة وحيدةً بعد أن حملتك إلى حيث تقف الآن.
انت تعشق العودة الآمنة إلى خلف هذا الجدار أمام نافذة، تراقب التاريخ يعدو خلف أكوان موازية.
اتذكر صديقي الذي يذهب كل يوم إلى وسط المدينة ويعود بفم أحمر و كف نظيفة بعد أن ابتاع بكل ما يمتلك بعض من أوراق “التمبل” التي تمنحه، كما يدعي، نشوة ايجابية، حتى يبدو وكأنه حقق انجاز عظيم في الحياة. هو بذاته الذي يمتلك راديو ترانزيستور صغيرة تداعب الليل بصوت كوكب الشرق، وتوحد مسامع تلاميذ كلية عدن- القسم الداخلي، في غرف انتظمت على ناحية واحدة من كوريدور طويل وأنيق بمقاييس ذلك الزمن.
لم تكن “الليلة كوخاً بدوياً” ولا “المصابيح قبيلة” بل كانت رعشة القلوب الصغيرة على وقع تساؤل الامير عبد الله الفيصل: “قل لي الى اين المسير”. تساؤل غنائي سوف يسفر عن تداعيات عاطفية ليست بالضرورة حكيمة أو متماسكة، خاصة وان عدن مزروعة “ع الداير” بالحناجر الملتهبة التي يفترض أنها تمهد لتحرير الكوكب من المحيط إلى المحيط.
بين الحب والثورة حلقة واحدة في الخارطة الجينية لا يدركها أحد، سوى شاعر صغير وقف مع زميله يتأملان في أغاني مهيار الدمشقي ويرى كيف أن الشعر يتمرد على العقل خاصة حين يتحدث عن العشق في عالم ثالث!
كل شيء جميل في عدن.. لياليها الشتوية، الغيمات السابحة وهي تمتص الدفق الفضي لقمر السبعينات، صباحاتها الفياضة بالشموس والاغاني.. او الوقوف امام النافذة قبالة ذلك السور الفاصل بين عالمين، المدرسة والشجيرات التي تستريح خلف الظمأ، كما تخيلها شاعر عراقي.
الحب ايها الرفاق يحرك هذه المدينة الكونية الجميلة لكنها تُستدرج إلى خارطة الضياع و على وقع غواية تاريخية لا تتسق مع ميلادها العفوي لتكتشف بعد عقود بأنها وقعت في فخّ طليعي ولم تعد قادرة على التمني.
لقد تبدل كل شيء يا رفاق المجد المتخيل!
كان شعر عبد الله الفيصل أجمل ما أنتجته الدواوين الاميرية في ذلك الزمن، قبل أن تشتد الحالات وتتفرق بين خطاب الصحوات ومزامير الجهاد التي مثلت الى جانب البترول وفرة فاضت من بلد شاعر الملوك فوق تضاريس الشرق البائس لتنجب مجتمعاً عربياً هجيناً، موزع بين قرنين متباعدين.. الثالث عشر والعشرين.
.
لكن “ستوب”… هناك ما هو اجمل : سهر الشوق في (تلك) ليلتي وحلم حياتي، التي ذهبت ولن تعود لأنه في عام ترانزيستور صاحبي أيضاً استيقظت عاصمة الشاعر الآخر على بكائية القرن حين تم تقديم المدينة أضحيةً لإله الطوائف.
كل ذلك وأنت لم تزل تتطلع نحو بيوت الصفيح وتحاول أن تكتب على زجاج النافذة “أنك شمس نحيلة تحتها مزقت الأرض رباها”، وتركتها كما هي، وأن التائه لم يلتق بالدرب الطويلة بعد!
تمنيت وأنت تطوي مشوار العمر لو ان الزمن توقف حين أسرعت الخطى نحو بوابة المدرسة قبل ان تصمت اجراسها الصباحية، او ظللت تحدق في بيوت الصفيح وهي تنمو في بلد أوفر حظاً و قبل أن تستوعب لاحقاً أنه: ليس بالشوق وحده يسهر الإنسان!
لا اعرف كيف أصبح حال صديقي وهل استبدل راديو الترانزيستور بالآيفون، مثلما فعلت البشرية جمعاء؟ ام أخذ حقيبته ورحل خلف بحور سبعة الى بلد ينام فيه الغرباء على أرصفة الصقيع؟.