الدولة المستقلة التي يحمل المجلس الانتقالي الجنوبي مشروع إقامتها في مجال جغرافي يمتد على جميع محافظات جنوب اليمن، برزت إلى الواجهة بشكل غير مسبوق في إطار الحراك السياسي النشط الذي بدأه المجلس لمنع تهميش القضية في أي مسار لإنهاء الصراع اليمني سلميا، وهو حراك تجاوز مجرد إبداء المواقف إلى إيجاد هياكل تنظيمية قادرة على تأطير الدولة وإدارتها بمجرّد إعلانها.
عدن- أظهر الحراك السياسي الكثيف، الذي شهدته مدينة عدن في مطلع السنة الجديدة، دخول المجلس الانتقالي الجنوبي في ما يشبه سباقا ضدّ الساعة لتثبيت قضية استعادة دولة الجنوب المستقلّة ضمن أي مسار للحلّ السياسي للصراع اليمني قد يتمّ إطلاقه خلال السنة الجارية في ضوء ما تمّ قطعه إلى حدّ الآن من قبل القوى المحلية والإقليمية والدولية ذات الصلة بالملف من خطوات ممهّدة لذلك المسار.
واتّخذ الحراك مسارين متوازيين، يتمثّل أولهما في إحكام هيكلة المجلس وتقوية مؤسساته لتحويله إلى جهاز سياسي وإداري وأمني جاهز لإدارة الدولة حالما يتم إعلانها، ويتمثّل ثانيهما في منع انفراط عِقد الخارطة التي ستقام عليها الدولة المنشودة وحماية وحدتها من الخلافات ونزعات التفرّد التي ظهرت في بعض محافظات الجنوب وحتى داخل مناطق محدّدة في تلك المحافظات، على غرار ما هو جار في محافظة حضرموت التي أوجدت تحركات جماعة الإخوان المسلمين فيها ما يشبه القسمة بين منطقتي الساحل والوادي.
وتم الثلاثاء عقد أول اجتماع لمجلس العموم للمجلس الانتقالي الجنوبي تحت شعار “تعزيز الأداء السياسي والعمل المؤسسي نحو استعادة وبناء دولة الجنوب الفيدرالية المستقلة”.
واعتبر متابعون للحراك السياسي بجنوب اليمن أنّ اختيار الشكل الفيدرالي لدولة الجنوب التي يحمل المجلس الانتقالي مشروع إقامتها يعكس قدرا من المرونة إزاء الحراك الجاري داخل عدد من المحافظات باتّجاه تقوية حكوماتها المحلية وتوسيع دائرة اتخاذها للقرار، على ألا يتحوّل ذلك إلى نزوع نحو الأقلمة والانفصال.
ويعارض المجلس بشدّة إطلاق أي مسار لحل الصراع اليمني سلميا لا يتضمّن على أجندته بندا يتعلّق بقضية الجنوب. ووجّه على هذا الأساس نقده لخارطة الطريق التي أعلن عنها مؤخّرا المبعوث الأممي إلى اليمن هانس غروندبرغ، مشدّدا على لسان نائب رئيس دائرته الإعلامية منصور صالح على وجوب “أن تكون القضية الجنوبية حاضرة بقوة وبتمثيل مشرِّف وفي إطار خاص وبرعاية دولية، حتى يصل شعب الجنوب إلى مبتغاه وتطلعاته”.
وبرز هذا التوجّه بجلاء من خلال خطاب رئيس الانتقالي عيدروس الزبيدي في اجتماع مجلس العموم الذي قال فيه إنّ شعب الجنوب “أفنى ثلاثة عقود في النضال لاستعادة وبناء دولته” وإنّ دوافعه ازدادت “إلى انتهاج خيارات أخرى لانتزاع حقه سلما أو حربا”، مذكّرا بأنّ ذلك “حدث في السابق وقد يتكرر إن لزم الأمر”.
وطالب الزبيدي في خطابه بعدم ترحيل حل القضية الجنوبية مؤكدا أهمية الشروع في عملية سياسية شاملة في اليمن وفي الجنوب، ومجدّدا رفضه لتجزئة العملية السياسية أو انتقاء أولوياتها.
وفي رسالة إلى القوى المشاركة في جهود السلام أكّد رئيس الانتقالي ثبات موقف المجلس بشأن قضية الدولة الجنوبية قائلا “مسيرتنا لاستعادة وبناء دولة الجنوب الفيدرالية، مسؤولية لا رجعة ولا تفريط فيها. ولن تثنينا عنها حملات الترهيب وعمليات الإرهاب وحشود الغزو. فالسبيل الوحيد إلى السلام هو العودة لوضع الدولتين لما قبل 21 أيار (مايو) 1990. وتلك مصلحة جنوبية ويمنية وإقليمية ودولية”.
تركيز لافت على فيدرالية دولة الجنوب لتبديد الخلافات داخل المحافظات وضمان الوحدة ضمن مشروع استعادة الدولة
وصدر عن الاجتماع بيان لفت نظرَ المراقبين الحضورُ المكثّف فيه لمصطلح “دولة الجنوب الفيدرالية المستقلة”، في إشارة إلى نضج فكرة الدولة المنشودة وشكلها، من جهة، وإلى استعداد المجلس الانتقالي لاستيعاب كافة القوى برؤاها المختلفة في نطاق مشروع استعادة الدولة بما في ذلك تلك القوى التي اتّجهت مؤخّرا نحو الانكفاء داخل المحافظات التي تنتمي إليها والتركيز على العمل في نطاق محلّي.
وورد في البيان أن انعقاد مجلس العموم جاء بعد “أن استكمل المجلس الانتقالي الجنوبي بناءه التنظيمي وتطوير عمله المؤسسي ككيان سياسي يقود شعب الجنوب لاستكمال التحرر الوطني واستعادة سيادته وبناء دولته الفيدرالية المستقلة كاملة السيادة”.
كما ورد فيه تأكيد “مجلس العموم التزامه الكامل بالحفاظ على ما تحقق من منجزات سياسية ودبلوماسية وعسكرية وأمنية وتعزيزها وتوجيهها للحفاظ على وحدة الجنوب وهويته أرضا وإنسانا والدفاع عنه وتحرير ما تبقى منه في سبيل تحقيق تطلعات شعب الجنوب”.
وتضمّن البيان أيضا منح رئيس المجلس الانتقالي تفويضا “لاتخاذ القرارات الكفيلة بإنفاذ إرادة شعب الجنوب، وتجسيد آماله وتطلعاته، وصون وحماية حقوقه” التي من بينها وفق البيان ذاته “الاستقلال والسيادة على أرضه والتحكم بثرواته الوطنية”، “واستعادة وبناء دولته الفيدرالية المستقلة على حدودها المتعارف عليها دوليا”.
وقال مراقبون إنّ تفعيل دور مجلس العموم في هذا المنعطف بالذات يكتسي أهمية استثنائية لكونه يضمّ أهمّ الهيئات والمؤسسات السيادية بما في ذلك هيئة رئاسة المجلس الانتقالي والقيادة التنفيذية العليا للمجلس والجمعية الوطنية العمومية ومجلس المستشارين، ويمتلك صلاحية مناقشة القرارات المصيرية للجنوب.
وأوضحوا أنّ عيدروس الزبيدي يكون قد أوجد بقراره تأسيس مجلس العموم أداة مثالية لمواجهة متطلبات المرحلة ومن ضمنها خوض معترك مسار السلام القادم ومناقشة تفاصيله وتثبيت مشاغل الجنوبيين على أجندته وفي مقدمتها مشغل استعادة الدولة المستقلّة.
وتعليقا على حدث انعقاد أول اجتماع للمجلس قال أحمد عمر بن فريد رئيس فريق الحوار الجنوبي في الخارج إنّ “أبرز رسالة للاجتماع هي أننا نؤمن بالسلام ونسعى إليه وفي نفس الوقت نرفض أن تفرض علينا خيارات لا نقبلها ولا تلبي تطلعات شعبنا في الحرية والاستقلال”.
وأضاف في تدوينة على منصة إكس أنّ مجلس العموم “معني باتخاذ القرارات المصيرية في هذه المرحلة التاريخية الفاصلة في مصير قضيتنا الوطنية؛ قضية الجنوب”، مؤكّدا قوله “نسعى بكافة الوسائل الحضارية لتجسيد إرادة شعب وتمثيل قضية وطن لا تقبل التأويل أو التهميش أو الالتفاف عليها”.
وقال المحلل السياسي ياسر اليافعي إنّه حضر اجتماع مجلس العموم في عدن وسجّل حضور “طيف واسع من الكوادر الجنوبية والمناضلين الممثلين لكل الجنوب من المهرة إلى باب المندب وسقطرى وهم تحت سقف واحد وقيادة واحدة وبحماية القوات المسلحة الجنوبية، وكل تلك مؤشرات حقيقية على البناء المؤسسي وقرب استعادة الدولة”.