قصة الاتصالات في عدن | د. عيدروس نصر
قصة الاتصالات في عدن | د. عيدروس نصر
على مدى سنوات الحرب التسع منذ الانقلاب الحوثي-العفاشي على الرئيس الشرعي عبد ربه منصور هادي وحكومة الرئيس خالد بحاح، ظل قطاع الاتصالات يخضع فنياً ومالياً وإدارياً لسلطة الجماعة الحوثية، وتمكن الحوثيون من تسخير هذا القطاع لرصد ومتابعة حركات وسكنات كل موظف وكل مسؤول وكل مواطن وطبعا كل جندي وقائد يتصدى لمشروعها بدءاً برئيس الجمهورية وكبار المسؤولين الضباط والقادة وانتهاءً بالمواطنين العاديين، وحققت جماعة الحوثي بفضل هذه الخدمة الكثير من الاختراقات التي مكنتها من السيطرة على مساحات ومعسكرات ومديريات ومحافظات كاملة، مما كان إعلام الشرعية يقول إنه يسيطر عليه، مع عدم إغفال عنصري التخادم والتخاذل من قبل أطراف نافذة في الشرعية في تسليم المعسكرات والمحافظات بمساحاتها الشاسعة لجماعة الانقلاب.
لا يمكن لعاقل أن يستوعب كيف سكتت الشرعية وأطرافها النافذة على هذا الوضع الذي لا يستسيغه ذو عقل ولا يتقبله ذو بصيرة.
جرت محاولات عدة لتحرير هذا القطاع من هيمنة الحوثيين الذين يحصدون من ورائه مئات المليارات ويسخرونها في حربهم على الشعبين في الشمال والجنوب، ناهيك عما أشرنا إليه من حرب التنصت والتجسس التي لا تخطئها العين في عصر الثورة الرقمية وتقنيات الاتصالات من مختلف الاجيال لكن تلك المحاولات كانت توأد في منتصف الطريق.
بالأمس عندما وافق مجلس الوزراء على التعاقد مع شركة إماراتية لإنشاء شركة اتصالات مشتركة تحت اسم “NX” في المناطق التي يسمونها (محررة) جن جنون البعض وانتابتهم حالة من الهستيريا والغضب والاستياء، وتذكروا السيادة الوطنية والدستور والقانون وراحوا يبحثون في إضبارات أرشيفهم عن نصوص لمحاولة إعاقة تنفيذ هذه الاتفاقية، وهي عادة متبعة في اليمن، يجري من خلالها رفع الأصوات وتضخيم الصخب والعويل لصناعة أزمة تدفع صانع القرار إلى التراجع عن أمر من الأمور أو قرار من القرارات مهما كان يحمل من الصوابية والجدوى.
كنت انقطعت عن متابعة نشاط هيئة رئاسة مجلس النواب بعد أن يأست ومعي العشرات من الزملاء أعضاء البرلمان (العجوز) من إمكانية تفعيل المجلس لمحاسبة الحكومة على الجرائم التي ترتكبها في حق هذا الشعب، ويتذكر الزميل رئيس مجلس النواب بأنني ومنذ نحو خمسة أشهر قد تقدمت بمذكرة مساءلة لرئيس مجلس الوزراء د. معين عبد الملك على خلفية إغراق البلاد في الفساد والعبث بالموارد الوطنية وفشله الذريع (وبما المخطط) في ملفي الخدمات والمرتبات، وطالبت بإحالته وحكومته إلى التحقيق على طريق الإحالة إلى القضاء لأن ما ارتكبه معين عبد الملك وحكومته يرقى إلى مستوى الجرائم، لكن هذا الأمر رمي في أدراج النسيان، فقد أصبح مجرد اجتماع ثلاثة من الأعضاء الأربعة في هيئة رئاسة البرلمان (المسن) حلماً يصبح تحقيقه معجزة.
وقد تحققت المعجزة عندما اجتمعت هيئة الرئاسة، لمناقشة موضوع إنشاء شركة الاتصالات اليمنية الإماراتية المشتركة “NX”، وأصدرت بيانها الملعلع، بهذا الصدد الذي اعتبرت فيه أن توقيع هذه الاتفاقية مخالفةٌ دستورية وتفريطٌ بالسيادة الوطنية وخرقٌ للقوانين واللوائح وإلى آخر هذه المعزوفة التي يتم اللجوء إليها كلما أريد تعطيل فعلاً إيجابياً لخدمة مصالح بعض النافذين، وتذكرت هيئة الرئاسة أن هناك فساداً وتقصيراً في عمل الحكومة فقامت برش رسالتها ببعض تلك البهارات لتعطي نكهة أكثر شمولاً لتلك الرسالة.
إذا ما بحثنا لحكومة معين عبد الملك عن إيجابية واحدة طوال عمرها ذي السنوات الخمس، فلن تكون هذه الإيجابية إلا إقرارها لهذه الاتفاقية أما الذين يتحدثون عن السيادة والدستور والقانون فإنني أود أن أذكرهم بالتالي:
* إن السيادة الوطنية قد سقطت يوم قتلت الطائرة الأمريكية أكثر من أربعين مواطناً من أبناء أبين في منطقة المعجلة بمحافظة أبين، ولم يحرك أحدٌ ساكناً ويوم أُحتِجِز رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء تحت التهديد بقوة السلاح، وما تلاها من أحداث مشابهة يطول حصرها.
* إن الدستور الذي يجري التباكي عليه قد جرى خرقه يوم رفع البرلمانيون أياديهم لمنح الحصانة خارج القانون والدستور، ويوم قبلوا بتنحية الرئيس الشرعي عبد ربه منصور هادي واستبدلوه بهيئة ثُمانيَّة ما أنزل الله بها من سلطان.
* أما الفساد الذي تتحدثون عنه فإن حكومة معين عبد الملك تستحق أن تقف بكل وزرائها في قفص الاتهام للمساءلة على حرب الخدمات وجرائم التجويع التي تمارسها بحق الشعب الجنوبي على مدى خمس سنوات، تحت سمع وبصر الجميع ولم يتذكر زملاؤنا هذا الفساد إلا عندما تعلق الأمر بتهديد مصالح الحوثيين وحرمانهم من المليارات التي يحصدونها جراء هيمنتهم على قطاع الاتصالات، ومن نشاطهم التجسسي على كل من يستخدم شبكة الاتصالاات التي يديرونها من صنعاء وعلى كل مساحة الجمهورية اليمنية (المفترضة).
الإصرار على استبقاء قطاع الاتصالات تحت الهيمنة الحوثية لا يؤكد إلا حقيقة واحدة وهي إن عملية التخادم بين الجماعة الحوثية وبين بعض النافذين داخل مؤسسات الشرعية مستمرة وتُمارَس على المكشوف وبلا أدني قدر من التستر أو التخفي أو التمويه.
أما التشاكي والتباكي من هذه الهيمنة الحوثية على قطاع الاتصالات مع الإصرار على استمرار هذه الهيمنة فإنما يعبر عن حالة انفصام لا يمكن فهمها إلا في إطار الحالة الشاملة التي تصبغ كل المشهد السياسي اليمني.
والله المستعان على كل حال.