مقالات وتحليلات

قتلوا فرحتي الأولى

قصة : دعاء علي

كان قد رزقني الله بفرحتي الأولى منذ شهرين فقط، وكنت قد اسميتها غزة؛ لحبي الكبير لهذه الأرض الطيبة التي تحتوينا بكل حب وحنان، كانت طفلة جميلة جدًا ولطيفة بقدر لا أحد يتخيله، كان البعض يقول أنها نسخة من والدها، والبعض الآخر يقول أنها تشبهني أكثر، مهما يكون فقد كانت طفلتي جميلة وملامحها ملائكية ، وكانت قد ملأت حياتنا بالفرحِ والسعادة، كان بيتنا الصغير يعج برائحة عطرها الذي لم تعُد تروقني أي رائحة غيره، كان صوت بكائها وضحكاتها وتمتماتها الغير مفهومة تجمِّل لحظاتي، وتواسيني دائمًا، أصبحت هذه الطفلة بروحها البريئة، وقلبها الأبيض، وملمسها الناعم، تُمثِّل كل شيء بالنسبة لي، أصبحت لحياتي حياة، ولروحي روحًا، ولأيامي السعادة والهناء والبهجة، أحببتها بطريقة جعلتني لا احتمل الابتعاد عنها لساعة واحدة، كيف لا وهذه طفلتي، ابنة قلبي، وفلذة كبدي، ومن صميمي وكياني وقطعة مني، كيف لا أحبها وأتعلق بها وقد جملت كل حياتي بقدومها، كيف لا وقد عاشت بداخلي 270 يومًا، واصطحبتها معي أينما ذهبت وعدت، حقًا ما عدتُ أتخيّل حياتي بدونها.

وفي يوم ليس الأول من نوعه كان الموت يحوم في أجواء غزة ويأخذ أي شخصًا يراه، يأخذ الأم من طفلها، والطفل من أمه، لن أقول أنني لم أكن خائفة، بل كان الرعب يخيّم في صدري، بقيتُ طوال اليوم محتضنة طفلتي التي لا تعلم ما يحدث حولها، كنت أنا أبكي وهي تضحك وتحرك يداها وقدماها بكل شغب وبراءة، في ذلك الحين بدأ القصف يشتد ويقترب أكثر، وما هي إلا دقائق والقصف يتجدد، كنت أبكي وأدعي وأضم طفلتي إلى صدري، في حين كان والدها يحاول تهدئتي ومواساتي والرعب بادٍ عليه هو الأخر، أتذكر أنه لفَّ يداه حولنا وخبئنا في جوفه وقال : لا تقلقي لن يصيبنا مكروه، نحن على الحق ونواجه يهودًا وفجّارا وأصحاب باطل وظلالة، لن يتركنا الله، إما سيحفظنا وينجينا، وإما سيسطفينا إليه شهداء مكرمين، ثم نظر إلى غزة وضمّها إليه وقال : لن تموت غزة مهما فعلوا ومهما حاولوا ستبقى.

لم يكمل كلامه حتى تحقق كلامه، وأتى الموت؛ ليأخذنا معه، أتذكر أن المنقذين أخرجونا من تحتِ الركام كنت أنا مازلت أعي ما يحدث، لكني كنت مصابة بجروحٍ بالغة؛ منعتني عن الوقوف والبحث عنه وعن غزتي، وبعد قليل في المستشفى الذي كان يعجُّ بالجرحى وأشلاء الموتى، فتحت عيناي ورحت اسأل : أين غزة، أين هي؟!

أجابني أحد المسعفين : غزة موجودة وستبقى كذلك رغمًا عن أنوفهم، كان يقصد غزة موطننا، لم يكن يعلم أنني قصدت طفلتي غزة.

بقيت أصيح باحثةً عن طفلتي ووالدها، فإذا بأحدهم يقول لي أنتِ والدة طفلة تُدعى غزة؟!

أجبته : أين هي، أرجوك أحضرها إليَّ لأشتم رائحتها وأسمع صوتها.

نظر إليَّ نظرةً بائسة، مفادها أن طفلتي ارتقت شهيدة بروحها الطاهرة، أدركت بعدها أن والدها هو الآخر رافقها إلى ذلك المكان الجميل كجمال غزتي وضحكتها الطفولية، صُقِع جسدي وأحسست بجميع تلك الجروح في روحي تتفتح وتذبحني من رأسي حتى أسفل قدماي، سقطت دمعتي المالحة على خديّ المجروحين وامتزجت ببقايا الدمِ فيهما ووصل الدمع إلى قلبي وأدماه وتقطعت روحي إربًا إربًا !

لم يكن بمقدوري حتى النهوض والذهاب؛ للتفتيش عنهما بين ذلك العدد المهول من الأكفان البيضاء.

لم أفعل شيئًا سوى أنني فرحت لأجلهما وقلت راضية بقضاء الله : غزتي فداءً لغزتنا !

أدركت أن النعيم لن يحتلَّ مكانًا في حياتي بعد اليوم، فتمنيت من الله أن يلحقني بهما بأقربِ وقت.

وماهي إلا ثلاثة أيام حتى قُصِف المستشفى الذي كانت فيه أم غزة، فصعدت روحها إلى جانب ربها والتقت بغزة ووالدها هناك.

مشــــاركـــة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى